فالمعري وشوبنهاور ونيتشه غضبوا على الحياة ونظامها وأدمنوا الآلام، وصاروا يناقشون الخالق مناقشة الند للند. . . فلا الخير خيره ولا الشر شره كما رسمهما هو في الطبيعة والشريعة وإنما الخير والشر شر ما يرسمون هم وإضرابهم
وقد أطفأ الأولان شعلة الحياة في جسديهما، ودعوا إلى إطفائها في أجساد الناس جميعاً، حتى تخرب الأرض وتفنى إنسانيتها
وماذا كانت تكون النتيجة لو أن الناس كلهم كانوا رهبان تمرد وعصيان كالمعري وشوبنهاور؟ وكاني بالإنسانية وقفت موقفهما قائلة للخالق: هاك الحياة التي أحييتنا مردودة عليك منطفئة الشعلة! دونك الأرض بحيوانها وشجرها ومرافقها لا نريد. لا نريد! وهانحن أولا رهبان شر أيها الآله إلى أن تموت!
ولكن الإنسانية التي فطرتها وإلهامها الإيمان والطاعة والعبادة لا تنفك تطرد من حياتها هذه الدعايات الشاذة السامة كما يطرد أفرداها عن أجسادهم البثور والقروح والدمامل، ولا تزال سامعة مصغية واعية لذلك الصوت الذي يدوي بهذه الكلمة:(يا معشر الجن والأنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا!). ولا تزال سائرة مأخوذة إلى غايتها في سلاسل من الضروات والرغائب. بل لا تزال جنّانُ الحياة وأناسيّثها تنشد قائلة وهي سائرة على الطريق:
(وأن ظننا أن لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هرباً)
(وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به؛ فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخساً ولا رهقاً)
(ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا)
ما هي حدود الإيمان فلسفياً؟ إنها في رأيي هذه:
أنا إنسان صحا من غيبوبة عدم لا يعرف مبتداها، فأدرك نفسه وفتح حواسه على ذلك البيت الهائل البديع: الدنيا، فتساءل بما فيه من إبهام السببية البديهية: من خلفني هكذا بديعاً كامل الأدوات لحياتي في هذا البيت؟
ثم تساءل: ومن خلق هذا البيت العجيب الهائل بأرضه وسمائه وهوائه ومائه وإنسانه وحيوانه وقواه وقوانينه الدائمة الصيانة له؟