ولو حاولت ما استطعت إلى ذلك سبيلا. وتشم عبير الزهر، فتقول: إنه طيب، ولو سئلت: لماذا هو طيب؟ لم تحر جواباً. وتسمع عزف الموسيقى أو خرير الغدير أو سجع الطيور، فتقول: صوت شجي، ولكن لماذا هو شجي؟ لست تدري ولا المنجم يدري. وتستطيع أن تقول مثل ذلك في كل منظر جميل يقع طرفك عليه، فلا يطالبك إنسان بتعليل جماله، ولو فعلت لطال بك البحث والتدليل، دون أن تنتهي إلى تعليل
ولكنك حين تستطيب قطعة من النظم طالبك النقاد بإيراد العلل والأسباب، كأن طيب الشعر في الذوق غير طيب التفاح في الفم، والزهر في الشم، والموسيقى في السمع، والحسن في العين
إنه الذوق، ثم الذوق وحده، الذوق الذي يجعلك تتشهى طعاماً وتعاف آخر، هو الذي يجعلك تسيغ شعراً وتغص بشعر؛ وهو الذي يقسم القافية إلى قافيتين، إحداهما تشج الجبين، والثانية أندى على الأكباد من العذب البراد؛ وهو الذي يقسم دواوين الشعراء إلى قسمين، أحدهما للخلود، والثاني للوقود
لا يخضع الشعر لمنطق النقاد، فاعتبر كل ما صح من أقيستهم في ذلك سفسطة لا طائل تحتها. وكم من شعر هوجم واستعملت في مهاجمته أسلحة الأقيسة والبراهين، وآخر ناصرته تلك الأسلحة فمات الثاني في مهده، وبقى الأول خالداً، تتداوله الرواة، وتتناوله الشفاه. . .
أرأيت لو قال لك قائل: أن صوت الحمل أشجى من صوت العصفور لأن الأول ألذ طعما وأكبر حجما، وأوفر شحما ولحماً، أو قال لك: أن ريح البصل أطيب من ريح الزهر لأن الثاني مرير الطعم، سريع الذبول، لا يصلح الطعام بخلاف الأول. أرأيت لو قال لك قائل ذلك هل تصيخ إليه؟ إنه لم يكذب ولكنه لن يجد له سميعاً
من هذا القبيل قولهم: إن هذا الشعر حافل بالمعاني الفلسفية، والنظريات الكونية و. . . و. . . ثم هو مع ذلك لا يحرك مشعراً من مشاعرك، ولا يمس وتراً من أوتار قلبك، بل يسمعه النائم فلا يستيقظ، والصاحي فينام، وهبه نافعاً كما يقولون، فما مثله مع ذلك إلا كمثل (زيت الخروع) يستعيذ من شره الإنسان، وإن صحت به الأبدان
حاول ما استطعت أن تعلل سر الجاذبية في الشعر، فسوف يعييك البحث. لن تستطيع