على الدوام، غير أنني أدعي أن ذلك شأن تواريخ الأمم الأخرى بدون استثناء. فإن تواريخ الأمم تشبه الأنهر الكبيرة التي تتكون من روافد عديدة بوجه عام
إن من يلقي نظرة عامة على تواريخ الأمم المعاصرة لنا كأن يستعرض تفاصيل تاريخ الأمة الفرنسية التي سبقت جميع الأمم في طريق الوحدة القومية - كما ذكرت آنفاً - يضطر إلى التسليم بأن العلاقات التاريخية التي تربط مصر بسائر الأقطار العربية، أقوى وأعمق وأطول من العلاقات التاريخية التي تربط الأقاليم الفرنسية بعضها ببعض. . .
وإذا أظهرتم شيئاً من الريب في هذا الباب فإنني مستعد لذكر التفاصيل والأسانيد التي تبرهن على صحة دعواي برهنة قطعية.
والآن انتقل معكم إلى آخر المواقف التي وقفتموها خلال استعراض الصلات. . . لقد أنكرتم (تأثير اللغة) في تكوين (الوحدة العربية) وقلتم: (لا تنخدعوا، لو كان للغة وزن في تقرير مصير الأمم لما كانت بلجيكا وسويسرا، ولا أمريكا ولا البرازيل ولا البرتغال. . .)
فاسمحوا لي أن أناقشكم في هذا الموضوع المهم مناقشة طويلة:
لو كنتم أقدمتم أيها الأستاذ على كتابة بحث مثل هذا البحث للبرهنة على نظرية مثل هذه النظرية - قبل ربع قرن - لاستطعتم أن تضيفوا إلى هذه الأمثلة مثالين آخرين. . . لقلتم عندئذ:(لا تنخدعوا، لو كان للغة وزن في تقرير مصير الأمم لما كانت الإمبراطورية النمسوية، ولا السلطنة العثمانية. . .)
ولو كنتم ممن عاشوا وكتبوا قبل ذلك بنصف قرن. . . لاستطعتم أن تضيفوا إلى أمثلتكم عشرات الأمثلة الأخرى، ولأرخيتم العنان لقلمكم الجواب لينتقل من جنوب إيطاليا إلى شمال ألمانيا. . ولقلتم:(لو كان للغة وزن في تقرير مصير الأمم. . . لما كانت ساردونيا وساكسونيا، ولا بيه ده مونته وباديرا. . .)
غير أن تقلبات الزمان، أزالت من عالم الوجود جميع تلك الأمثلة والشواهد الكثيرة، وحرمت النظرية التي تقولون بها إمكان الاستناد إليها، فحصرت الأمثلة في الأسماء التي ذكرتموها. . . أفلا ترون إليها الأستاذ إن هذه الملاحظة وحدها كافية للبرهنة على أن مثل هذه البراهين لا تخلو من مزالق كثيرة، فلا يجوز الاعتماد عليها في حل القضايا الاجتماعية؟.