إن قلتم ذلك فإني أجيب بأن لبغداد خصائص غير هذه الخصائص، منها الجد الرصين الذي يتمثل في تناول الحياة من نواحيها العنيفة في الكفاح والجهاد.
وأؤكد لكم أن البغداديين صبروا على ما لم يصبر عليه أصدق الرجال.
صبر البغداديين على بلايا كثيرة أخفها الأوبئة والطواعين، وصبروا على مكاره الدهر وتصاريف الزمان.
والبغدادي له لحظات بؤس يواجه فيها نفسه وهمومه ورزاياه، والشعور بالكرب هو أخص ما يلازم البغدادي حين يجلس وحده في المقهى أو في البيت، وهذا الحزن القاتل الذي يساور أهل بغداد من حين إلى حين هو الذي يجعلهم أقرب الناس إلى الغريزة الإنسانية، وهل يسيطر الحزن إلا على كبار القلوب؟
وأعيذكم أن تظنوا ذلك الحزن علامة من علامات اليأس. لا فالبغدادي يأنس بحزنه ليتخذ منه ذخيرة لمواجهة الخطوب. وما عرف البغداديون مواقع النصر في التاريخ إلا في أعقاب الأحزان.
وتفسير ذلك سهل: فالحزن الموجع هو الذي يحمل الرجل على أن يستيئس فيستقتل ويستميت.
والحق أن البغدادي يسرف في الفرح ويسرف في الحزن، ومن هذه الطبيعة المزدوجة استطاع البغداديون أن يكونوا من أسمح الناس وأشجع الناس.
وما وقع بصري على رجل من أهل بغداد إلا تألمت وحزنت، لأني أرى الدهر طبع على وجوههم سمات الحزن الدفين، ثم يخف ألمي وحزني حين أتذكر أن تلك الوجوه الشواحب تعرف كيف تصبر على مواجهة الخطوب.
وما كانوا جميعاً مكروبين ولا محزونين، ولكن الأقدار أبت أن تسبغ عليهم ثوب الصفاء، ليكونوا كأشجار البادية التي تقاوم العواصف وتصبر على الضمأ والقيظ بلا توجع ولا أنين.
ولكن ما هي الصور التي يدفع بها العراقيون تلك الموجعات؟
للعراقيين أساليب كثيرة في جلب المسرات إلى قلوبهم، منها الاشتغال بالفروسية والتأهب للحرب، فمن أعظم الملاهي عند الشبان العراقيين في هذه الأيام أن يكونوا طيارين وجنوداً