أما الأساتذة فالظفر بثقتهم سهل، لأني في الواقع من أصلح الناس لفهم ما أسمع من الخطب والمحاضرات، ولأني كنت بالفعل شاباً ناضجاً له في الأدب والفلسفة مذاهب وآراء
الصعوبة كل الصعوبة، والعسر كل العسر، هو في افتراع باريس لأصل إلى أوهام وحقائق أقيّد بها أذواق قراء البلاغ
وكيف أصل إلى هذا الغرض الجليل؟
هدتني الفطرة إلى قضاء أوقات الفراغ في الملاهي والملاعب والمراقص والقهوات، فكنت أقضي في هذه النزهة الطريفة ساعات من النهار وساعات من الليل
كنتُ شاباً، ورحمة الله على شبابي، الشباب الذي بددتُه في طلب الحب والمجد
كنت أذرع باريس بقدمي لأخلق لمقالاتي جوًّا من الحقيقة لا من الخيال
وأعانني على ما أسمو إليه لسانٌ مرن في اللغة الفرنسية مرونة عجيبة تقدر على جذب من أحاور من أسراب الظباء
والفرنسيون يغفرون للرجل جميع الذنوب إذا أمدته العناية الإلهية بلسان فصيح
وكان لي في باريس ثلاث قهوات: قهوة صغيرة جدّاً في بولميش بجوار (قهوة الرحيل) التي كان يجلس فيها الدكتور طه حسين يوم كان طالباً في جامعة باريس
وكانت هذه القهوة الصغيرة مخصصة للمواعيد الغرامية، والتأملات الفلسفية، فكيف صارت اليوم؟ ليتني أعرف!
أما القهوتان الأخريان فهما الروتوند والدُّوم في حي مونبارناس
كيف كنتُ أصطبح وأغتبق بهاتين القهوتين؟
كان مفهوم عندي أن لا سبيل إلى معاقرة الحياة إلا في مونبارناس
وإنما كان ذلك لأني كنت أتهيب مونمارتر تهيباً يصل إلى الفزع والرعب، فقد تشاجرت فيها مع أحد الشبان الفجار في سنة ١٩٢٧ وكاد اسمي يقيد في سجلات البوليس لولا لطف الله. وكانت هذه التجربة القاسية كافيةً لأن أقنع بالضلال في حي مونبارناس
وفي قهوة الدوم وقعت المأساة أو الملهاة التي أدونها في هذا الحديث:
دخلت ذات صباح فوجدت سيدة تطالع سِفر الوجود بعينين زرقاوين يندر أن يكون لهما شبيه أو مثيل