ومن أين أنفق على هذه السيدة وعلى طفلها وليس لي من جريدة البلاغ ومن الدروس الخصوصية إلا مبلغ ضئيل من المال لا يزيد على ثلاثة آلاف من الفرنكات، والحياة قاسية أشد القسوة على الغرباء في باريس؟
ثم نظرت فرأيت هذه المرأة تعرض مشروعاً نبيلاً قد يرفع روحي بعد إسفاف. فصوبت بصري إليها وقلت: وكيف أضمن أن تتوبي عن حياة الرجس؟
فقالت في استحياء: إن لغرفتي مفتاحين!
فقلت: وما معنى ذلك؟
فقالت: لك مفتاح ولي مفتاح، فخذني لنفسك وراقبني كيف تشاء، فإن استطعت أن تشهد عليَّ ما يريب بعد اليوم فاقتلني. والمهم أيها السيد أن ينجو طفلي من الجهل ومن الجوع
وفي تلك اللحظة تذكرت عبد المجيد فغلبني الدمع
تذكرت أني تركت في مصر الجديدة أطفالاً منهم عبد المجيد الذي كان يزعزع كياني حين يقول (بابا)
- وما اسم ابنك يا سيدة؟
- اسمه موريس
- هلم بنا إلى التسليم على موريس!
قد أنسى كل شيء، ولكني لن أنسى طلعة موريس
قد ينسيني الموت جميع ما حفظت من اللغة الفرنسية، ولكني سأذكر في قبري عبارة باقية في اللغة الفرنسية حين طلع موريس فقالت له أمه:
وتوهم الطفل أني أبوه فقبلني بحرارة والدموع في عينيه
-
-
واستأذنا مدير المدرسة فسلم إلينا الطفل ليقضي معنا ليلة في مباهج باريس
وسألني الطفل: أين كنت؟ فأخبرته أني توجهت إلى الشرق لزيارة القاهرة وبغداد وبيروت، واخترعت له أقاصيص تعجبه وتلهيه، ولم يفتني أن أحدثه عن أخبار الجن والعفاريت.