ويُظهِرُ لي قوم بعاداً وجفوة ... وما علموا أني بذلك أفرح
فيكون هو المعزز المكرم بقوله هذا. وأنظر إلى الوجدان في قوله:
تُحَبِّبُ أيام الحياة وإنها ... لأعذب من طعم الخلود لطاعم
وهو لا يفحش في هجائه كما يفعل الشعراء ولكنه مع ذلك يدمغ خصومه، أنظر إلى قوله:
من كل وجه نقاب العار نقبته ... كالعر مر عليه القار والقطر
يَصْدَى من اللؤم حتى لو تعاوده ... أيدي القيون زماناً لا نجلي الأثر
وهي مبالغة ضرورية لأنها نكتة يراد بها السخر. وانظر إلى قوله:
تمسكوا بوصايا اللؤم تحسبهم ... تتلى عليهم بها الآيات والسور
وقوله:
لو عِيْدَ من داء الفهاهة واحد ... عادوه من عي إذا حضر الندى
وأشعاره في الشيب كأشعار أخيه المرتضى مشهورة، وقد عنى بشعرهما في الشيب صاحب كتاب (الشهاب في الشيب والشباب) وهو باب من الشعر الوجداني أيضاً. وهذه النظرة في ديوان الشريف تثبت ما قدمناه في أول المقال من أنه أكثر نصيباً من شعر الوجدان ولكن ليس له في وصف الطبيعة كقصيدة أبي تمام التي أولها (رقت حواشي الدهر فهي تمرمر) أو كقصيدة البحتري التي يقول فيها (وجاء الربيع الطلق يختال ضاحكاً) أو (شقائق يحملن الندى فكأنه) أو وصف بركة المتوكل أو وصفه آثار الفرس وغيرها من شعر الوصف التصويري. وليس له كوصف ابن الرومي غروب الشمس في قوله (وقد رنقت شمس الأصيل الخ) ولم يسر شعره في الأمثال كما سار بعض شعر المتنبي، ولم يولع بالبحث في الحياة والكون كما يفعل المعري، ولكنه مع ذلك قد أمن زلل المبالغات والتشبيهات البعيدة المرفوضة، وأمن الفتور وأمن المعاظلة والتواء القول وأمن الألاعيب اللفظية. وشعر الوجدان ليس بأقل منزلة ولا أقل أثراً في النفس من أبواب القول الأخرى التي بزه فيها منافسوه، فهو إذاً أقل منهم منزلة وله مع ذلك نظرات صائبة تدل على عقل وذكاء وذوق في اختيار ما يقول ورفض ما لا يجمل به أن يقول. أنظر إلى قوله في وصف لذة القسوة المركبة في بعض الطبائع:
يهش للمرء تغريه أظافره ... كما تهش سباع الطير للجيف