النثر فضل كبير. وأحسب أن ابن الرومي لو شاء أن ينبغ في النثر نبوغه في الشعر لاستطاع لتقصيه الأجزاء وتتبعه، واتساق كلامه وربط بعضه ببعضه واستطراده وضربه الأمثال وإشاعته المعنى في أكثر من بيت، وما إلى هذه الصفات من صفات؛ ولكن الشعر ملك عليه وقته ونفسه وحاجات لبه وغلبت عليه سهولة النظم. ولم يصل إلينا شئ من نثر مهيار وإن كانت الكتابة هي الصفة المقدمة في كلمة ابن خلكان عنه. ولعل شعره في المدح وغيره من أغراض الأمراء والحكام يغني عن نثره لفظاً ومعنى. ولأناقة مهيار في أسلوبه سببان: الأول محاكاته طريقة الشريف الرضي، والثاني هو أن الدخيل إذا اعتنق لغة حتى تصير لغته واحتاج إلى النبوغ فيها والتكسب بها اضطر إلى التأنق أكثر من اضطرار الأصيل الذي يعتز بأصالته فلا يتعمد المغالاة في التأنق. ومن أجل ذلك كان مهيار أكثر أناقة في الأسلوب من كثير من شعراء العرب في الدولة العباسية ولاسيما شعراء عصره. وليست أناقته بمستحيلة إذ أن عمدة النحو العربي رجل فارسي مثله وهو سيبويه، وهو مثل آخر من أمثال هذه الظاهرة، وهي أن الدخيل قد ينبغ أكثر من الأصيل في لغة بسبب اضطراره إلى استبطان دخائلها، وهي ليست قاعدة عامة بل هي من الأمور الغريبة كغرابة إتقان الكاتب البولوني جوزيف كونراد للغة الإنجليزية وكتابة قصصه بها حتى صارت كتبه تعد من ذخائر الأدب الإنجليزي وحتى صار يعد أديباً إنجليزياً لا بولونياً
وقد أخذ مهيار عن الشريف سر الموسيقى الشعرية وهي لا تتوقف على الوزن وحده بل على الوزن وعلى أسلوب الشاعر في الإفصاح عن إحساسه. ومن قرأ قصيدة الشريف التي مطلعها:(ضَرَبنَ إلينا خدودا وِساما) أو التي مطلعها (أَرَاكَ ستحدثُ للقلب وجدا) أو التي مطلعها (اسلمي يا سرحة الحي) أو التي نطلعها (يا ظبية البان) وغيرها من أشعار الشريف ثم يقرأ شعر مهيار الموسيقي يحس كيف أتقن التلميذ سر تلك الموسيقى كما في قول مهيار:
أتراها يوم صدت أن أراها ... علمتْ أني منْ قتلى هواها
إلى أن يقول:
أُعْطِيَتْ من كل شيء ما اشتهت ... فرآها كل طرف فاشتهاها