كانت هذه المدرسة التي التحق بها شريف من أشهر المدارس يومئذ؛ وإن في اختياره المدرسة الحربية في تلك الظروف لدليلاً على أن الجندية كانت توائم طبعه، ففي الجندية الصحيحة حياة الإقدام والهمة والنظام والطاعة، وتلك صفات امتاز بها شريف رجل السياسة فيما ظهر من أعماله بعد
قضى شريف في تلك المدرسة عامين تجلى فيهما ذكاؤه وطموحه، ثم انتقل بعد ذلك إلى مدرسة تطبيق العلوم العسكرية، فلبث بها عامين آخرين انتظم بعدهما في سلك الجيش الفرنسي كما تقضي قوانين تلك المدرسة ليأخذ قسطه من المران العملي؛ ثم تخرج شريف ونال رتبة يوزباشي أركان حرب في ذلك الجيش
ولم تله شريفاً شؤون فنه عن غيره من الفنون، فراح يقرأ التاريخ والسياسة، ولا يفتأ يستزيد من المعرفة، مستعيناً في ذلك ببصيرة نيرة كانت من أظهر مواهبه، وعزيمة صادقة كانت في مقدمة خلاله؛ وأتقن شريف الفرنسية وحذقها حتى لقد كان يعجل بها لسانه كأنه أحد أبنائها، كما درس شريف طباع الفرنسيين ووعى قلبه ظرفهم وأناقتهم، حتى صار بينهم وهو ذلك الفتى الشرقي وكأنه منهم، ولذلك لقب (بالفرنساوي) وصار يجري لقبه هذا على ألسنة معاصريه. . وليس معنى ذلك أن شريفاً قد جعل بينه وبين قومه سداً بما تعود من عادات الفرنسيين، فما كان مثله بالمتكلف، ولقد كان له من أصالته واعتداده بنفسه ما يربأ به عن ذلك العيب، وإلا فكيف أصبح حين عاد إلى وطنه أشد الرجال مقاومة للنفوذ الأجنبي؟
وولي أمر مصر عباس باشا الأول فأعاد أعضاء البعثات العلمية من الخارج، فعاد شريف فيمن عادوا عام ١٨٤٩م. ولقد نستطيع أن نتصور ما تركته حال مصر يومئذ من أثر في نفس هذا الفتى الطموح، فلقد تعلم وتأهب ليعود فيجد المدارس تغلق أبوابها، والجيش يهلك عنه سلطانه بعد أن انهدت أركانه؛ ويجد مصر وقد ذلت بعد عزة، يبدو عليها مثل ما يبدو على ذوي القوة والبأس وقد جرد من حسامه، وعاهلها ناقم على العصر ومظاهر العصر ونافر من الأجانب وما يأتون به مما كان يعده من أنواع الغرور والبهتان
ضاقت مصر عن همة شريف وعن علم شريف ولكن أين يذهب وليس له غير مصر؟ وإذاً فليرض بأن يأخذ في الجيش المصري نفس الرتبة التي أخذها في الجيش الفرنسي