فليس من هذا الرضاء بد. ولئن كان جيش مصر لا يعمل فربما أتت الأيام بما ليس يجري في بال أحد، فينصرف شريف من ميدان إلى ميدان إلا يكن فيه قتال فليس يخلو من نضال. . .
وفي مصر اتصل شريف بسليمان باشا الفرنساوي، وأعجب به القائد الكبير وأخلص له الود والمحبة. . . ألا ليت هذا اللقاء كان أيام نصيبين وكوتاهية، وإذاً لرأى التاريخ ماذا كان عسيا أن يأتيه شريف الجندي في ميادين البطولة والتضحية، ولكنه كان في تلك الأيام لا يزال طالباً يتطلع ويأمل
ولن يزال سليمان يوليه من عطفه وتأييده، ثم يلحقه بحاشيته الحربية في منصب (الياوران)؛ ويظل هذا عمله فلا يخوض معركة ولا يرسم خطة؛ وعباس في شغل عن الجيش لأنه في غنى عنه، ولكنه يضيق بما هو فيه ولا يطيق صبراً على إغفال عباس له وإن لم يقصد عباس هذا الإغفال، فيعتزل الجندية التي لم يكن له منها غير اسمها، ويكون هذا الاعتزال من جانب شريف أولى خطواته في الدفاع عن كرامته، ولسوف تكون له بعدها خطوات لن يخطوها إلا ذو عزة وذو نخوة. . .
ويلتحق شريف بدائرة الأمير عبد الحليم ردحاً من الزمن يشرف على أعمالها بما اشتهر به من فطنة وبعد همة. ولقد كان الأمير وهو نجل محمد علي من أقرانه في البعثة، فألان له جانبه وزاد في إكرامه وإعزازه. . . وشريف يقبل حياة الدعة على رغمه، ففي طبعه ميل إلى النضال والكفاح، وفي خلقه اعتداد يشبه الزهو، بل لقد كان يبلغ به الذهاب بنفسه أحياناً حد الصلف، وتلك خلة لا يسعنا إلا أن نعدها على شريف مهما تكن بواعثها
وأخذ سعيد الولاية بعد موت عباس، وكان لسعيد ولع بالجيش، وإن لم تكن به حاجة إليه، وحمله حبه للجيش على أن يشهد تدريبه بنفسه ثم بسط له يده كل البسط، فألبسه أحسن اللباس وأطعمه أجود الطعام، ومد له أسباب الترف والنعيم، حتى لقد كانت تقاس كفاية ذلك الجيش عنده بحسن مظهره ووجاهة رجاله. . . وكان شريف وجيه الطلعة جم الأناقة فضلاً عما كان يتحلى به من صفات الجندية؛ لذلك جعله سعيد من المقربين، ورقاه إلى رتبة (أميرألاي)، ثم ما لبث أن رفعه إلى رتبة (لواء) ووضعه على رأس الحرس الخصوصي؛ وهكذا يعود شريف إلى الحياة العسكرية وإن جاز لنا أن نسمي حياة كهذه حياة عسكرية. .