وحرصها على مودة صديقتها والوفاء لها. فغلبها على أمرها ما خلقت له وهو الزواج وفي النفس ما فيها من خوف وعذاب، فأطاعت أمها على مضض وعقد لها على ابن خالتها وزفت إليه.
ومضى زمن قصير فإذا هدى تنقلب إلى امرأة شرسة طاغية. كلما لسعتها الغيرة ثارت بأوعية البيت وآنية الطعام فهشمتها وداستها بقدميها، ولعنت الرجال، ونقمت على الصداقة التي طعنتها في الصميم. وإذا جاء طاهر ليبيت عندها ليلتها الخاصة تنكرت له وتجهَّمت وانكفأت إلى عزلتها الأليمة، ولا زال قطعاً من الليل يتملقها ويترضاها وهي تتميز من الغيظ، وتتمزق من القهر، حتى تنفجر باكية فيتركها ريثما تهدأ ثم ينام، وبقي على هذه الحال بضعة أشهر حتى قطع عنها ليلتها وجعلها كل أسبوع مرة. وبعد سنة صار لا يزورها إلا لماماً. وكم كانت الغيرة تنغص عيشها كلما فكرت في ضرتها وخيانتها وزهادة زوجها فيها وعزوفه عنها
تصرمت خمسة أعوام على زواجه الجديد، فلم تلد له أمونة ولداً، فثار عليها في نفسه ثورته على هدى. ثم فكر كثيراً، وتذكر ملياً فرد إلى نفسه وأدرك إخفاقه في النسل، فاستقر في ظنه أنه هو العقيم، لا هاتان المرأتان المظلومتان. غير أن خوفه على اتهام نفسه وامتهانها جعل في فكره منطقاً فاسداً صور له براءتها فأحدث له شكا خرج منه إلى أن زوجته الثانية عاقر كالأولى، فقص هذا على جاره الأدنى في السوق وكان يستخلصه لنفسه، ويستشيره في شؤونه. فقال له: لقد تزوجت الثانية حسبما أشرت فلم تلد، وأنا رجل غني، كما تعلم، فماذا أفعل؟ فأشار عليه بالزوجة الثالثة وتطليق الأولى
في مساء ذلك اليوم عاد إلى بيته الثاني، وقال لابنة خالته فيما قال من حديث السمر أمام المدفأ في الشتاء: أترين يا أمُو - وصار يخاطبها بهذا اللفظ المقتضب كما كان ينادي زوجه الأولى - كيف أنك لم تحملي بولد يرثني، وقد صرت إلى حال من القنوط تمنيت معها الموت. وقد أشاروا عليّ بالزواج لعل حظي من الولد يوافيني من الثالثة، على أن أطلق لك الضرة الكريهة التي تبغضك وتطعن فيك وتدعو عليك بالموت.
فما سمعت أمونة هذا الكلام حتى مرت في طور صديقتها تلك الليلة الماطرة قبل خمس سنين، فاصفرت وبكت وانقضت على ابن خالتها كالمجنونة وصاحت به: