لاهوتهم الوثني العجيب، ووزع ما في الحياتين الأولى والآخرة على هذه الآلهة وتلكم الأرباب. . . ثم هو الذي بدأ نظم الملاحم الطوال ودبجها هذا التدبيج المتألق البراق، مستغلا أساطيرهم القديمة، وذاك الفوكلور الساذج الذي يفيض به تاريخهم القديم
والثابت أن هوميروس لم ينظم الإلياذة والأوديسة للقراءة والاستمتاع الأدبي، بل هو قد نظمهما للتلاوة والإنشاد في المحافل ومجامع السمر، إذ كان من دأب دويلات بحر إيجة استدعاء الشعراء والمنشدين والمغنين لإحياء أفراحهم وبعث المرح في حفلاتهم. وقد حفظ لنا الأثر أسماء أورفيوس وميوزيوس ولينوس وغيرهم من شعراء عصر البطولة ومنشديه وموسيقيه. الذين سبقوا هوميروس إلى نظم الخرافات وقرض الأساطير، متأثرين في ذلك بقصص الشعوب السامية في مصر والشام وأساطير الفرس والبابليين. ولم يحفظ لنا التاريخ شيئاً من آثار هؤلاء الشعراء، اللهم إلا نتقاً مما كان يستشهد به اللغويون مؤلفو المراجع للتدليل على صحة كلمة أو سلامة استعمال، وهو شيء يسير ليس فيه غناء
وقد سهلت اللغة اليونانية القديمة على شعرائها الكلاسيكيين عملهم، وجعلت نظم الملاحم الطوال من أيسر الأعمال الأدبية وأهونها عليهم. . . ذلك أنها لغة واسعة شاسعة استوعبت لهجات كثيرة لمختلف القبائل والبطون والأفخاذ الضاربة في شطئان البحر الإيجي، وقد تهيأ لها بذلك ما تهيأ للسان قريش من كثرة المترادفات وليونة التعبيرات وتعددها
ولم يكن نظم الملاحم للتلاوة يستدعي فنية الأسلوب أو صقله بحيث يحتاج مجهوداً أو يلتفت فيه الناظم إلى ما يلتفت إليه شعراؤنا من التهذيب والتطرية البيانية والزخرف الصناعي. . . وقد يحسب قارئ أدبهم أنه من عبث أطفال كما قال قدماء المصريين مرة لصولون. . . وقد كان المصريون معذورين في قولهم هذا، فلقد كانوا يعنون بالجد الصارم من أمور الحياة أكثر مما كانوا يلتفتون إلى هذا القريض الطويل الشعبي يهرف به الشعراء والمغنون.
والحق أن روح الطفولة شائعة في ملاحم اليونان كلها ولم تظهر العناية القليلة بالأسلوب إلا في شعراء الدرامة، ثم في شعراء الإسكندرية بعد ذلك. وهذه الروح واضحة في هوميروس وضوحا شديدا، فهو لا يعني إلا بالحادثة، وكثيرا ما يتحاشى (الرتوش) والتهاويل المملة والزخارف اللغوية التي لا تتهيأ إلا في الأثر الأدبي الذي يؤلف للقراءة لا للإنشاد أو