- شكراً لك، ثم شكراً؛ إني محتاج ليد قوية رشيدة في هذا البلد الغريب تهديني سبيل الحق حتى أقف على أسراره وعاداته، ولن يسعني حيَال هذه السماحة إلا القبول، والثناء العاطر، والاعتراف بالجميل
- هيا بنا الآن أريك المنزل وأقدمك للأسرة، وكن واثقاً بأنهم سيضعونك في منزلة العزيز المكرم
أخذت ألمح له أثناء الطريق بما يؤهله لاكتساب محبة الناس في هذه البلاد، وأننا هنا رسل الدعاية لمصر البائسة، فلزام علينا أن نتحاشى السفاسف والدنايا، وأن الأسرة التي سيقيم فيها، تربا بمنزلها أن يدنس، أو يكون موئلاً للفحش والخنا، أو يكون ضيفها عربيداً ماجناً، وخليعاً مستهتراً؛ لأنها متزمتة وقورة، وربها أستاذ كبير في الموسيقى، ولم ير مني إلا كل ما يشرح صدره، ولم اعهد عليه إلا التفاني في سبيل راحتي
بدت على محياه إمارات الارتياح، وأكد لي أنه سيكون مضرب الأمثال في نبل الأخلاق والرجولة، وأني سأكون فخوراً بصحبته تيّاهاً بخلاله وسجاياه
قدمته للآسرة وزكيته وأطنبت في مديحه، وقصصت ما لاقاه من عنت وإرهاق، فرثوا لحاله ورحبوا به، واخذوا يبعدون من مخيلته هذه الصورة المزرية عن بلاد الإنجليز وخلال أبناء التاميز، بحديثهم الحلو ومداعباتهم الطريفة
مضى على صاحبنا أسبوع، بدا فيه نموذجاً عالياً للأدب والظرف والدماثة والوقار، فزدنا في إكرامه والاحتفاء به. بيد أنه أخذ يتخلف عن جلسات السرة بعد العشاء، ويلزم الصمت أثناء الطعام، ثم يفر إلى غرفته فرار الظليم، فرابنا أمره وخشينا أن تكون قد حلت به كارثة، فتبعته مرة، وطرقت باب غرفته، فلم يجب، فواصلت الطرق فترة غير وجيزة، وأنا أناشده الله إلا أفضى إليّ بدخيلته، وبدواعي وجومه وعبوسه؛ ففتح بعد لأي، وشرر الغيظ يتطاير من عينيه، وفي وجهه اكفهرار وامتقْاع ويداه ترتعدان كالمحموم، وابتدرني قائلاً بصوت متهدج يفصح عن الوجل والحنق:
- ماذا تريد؟ لن أسمح لك بدخول حجرتين، اقصر عطفك على نفسك، فلست حدثاً غِراً!
- أسف يا هذا! فلم يدر بخلدي أن مثلك، وقد كان بالأمس سمحاً وديعاً، سيظهر اليوم سافلاً