لا يعد الإنسان مصوراً حتى يجيد التصوير، ولا يعد نجاراً كل من نجر خشبة أو دق مسماراً بل لابد أن تكون له صنعة لا يستطيعها كل من حاولها. كذلك ليس كل من عبّر عن عاطفة أديباً. لا! حتى يكون في بيانه إدراك يرفعه عن العامية ولابتذال، وصنعة تميزه عن الدهماء وتميزه باسم الكاتب أو الشاعر أو الخطيب الخ - حتى يأتي بكلام معجب يحس فيه سامعه أو قارئه إدراكاً قيماً، وتصويراً بارعاً كما تُرى صنعة نجار فيُعرف أنها عمل لا يستطيعه كل من وجد الخشب وآلات النجارة.
الحزن - مثلا - عاطفة تبين بالوجوم والصياح، والأنين والبكاء والعبارة المعتادة، والقصيدة. وكل هذه الدلالات تبين عن العاطفة ولكن لا يعد من الأدب إلا القصيدة.
وكذلك الأمور النفسية الملونة بألوان النفس تملأ كلام العامة والخاصة ولكنها لا تحسب أدبا حتى ترتقي إلى مستوى الفن وفي هذا درجات تتوالى إلى حد الإعجاز.
الفرق بين الأدب والعلم
يتبين مما تقدم أن قضايا العلوم المحضة ليست مادة للأدب؛ فإذا قلنا: زوايا المثلث تساوي زاويتين قائمتين، أو الخط المستقيم أقصر خط بين نقطتين، أو حاصل ضرب خارج القسمة في المقسوم عليه يساوي المقسوم، أو هذا الدواء ينفع لهذا المرض الخ فهي قضايا علمية ليست من موضوع الأدب في شيء
ليست هذه القضايا من الأدب ولكن يجوز أن تدخل فيه لتكون مقدمة لغيرها أو للتشبيه بها أو نحو ذلك كما قال المعري:
طرق العلا مجهولة فكأنها ... صم العدائد مالها أجذار
وقوله:
الخلق من أربع مجمعة ... ماء ونار وتربة وهوا
والكتب العلمية ليست من مباحث الأدب إلا أن ينظر الأديب إلى حسن البيان فيها والترتيب والتقسيم ووضوح الألفاظ فيجوز للفن أن يتناولها من هذه الناحية
فإذا اتحدَت المسائل في كتب علمية واختلفت أساليبها فقيل هذا الكتاب واضح العبارة، صحيح الألفاظ جيد الأسلوب فهذا تقدير موصول بالفن يجعل الكتاب من هذه الناحية ذا