ولقد استبدت تكاليف الحياة ومطالب العيش بكثير من الأدباء فألهتم عن مجالس السمر، وحرمتهم من ذلك المجلس الطيب الشهي، ولكن ما زال النادي عامراً بأبنائه المخلصين، وما زال المتخرجون فيه يهبطون عليه بين وقت وأخر حتى الذين يسكنون في الضواحي على بعد الشقة وكثرة الكلفة. ويا له من حنين طيب ووفاء عجيب! وقديماً قيل (ما لحب إلا للحبيب الأول) ويعتبر الهراوي في هذه الأيام عميد نادي الحلمية، أو عمدة مصطبة الحلمية كما يقول صديقنا الدكتور زكي مبارك، أو شيخ السقيفة على حد تعبير المهدي مصطفى الشاعر الظريف
فالهراوي من الجلساء المخضرمين أدرك النادي السابق وكان من رجاله، وأسس النادي اللاحق وآثره بكثير من عطفه وإخلاصه، فقل أن يتغيب عنه في يوم من الأيام ودائماً يحلو له أن يأخذ مجلسه عند المدخل على سفح (الدرجات الأربع) ومن حوله الأسمر والشيخ عبد الرسول ومرتضى الخطاط، أجزاء لا تتجزأ وعصبة لا تفترق
وأدباء الحلمية نمط واحد وطراز متفق، ولهم ذوق عملت فيه الثقافة العربية أكثر من أي شيء آخر؛ وهم يعشقون الديباجة القوية السليمة، ويطيرون بالأساليب المشرقة المونقة ويذكرون شوقي وحافظ وعبد المطلب بالخير والحمد، ويترحمون على المنفلوطي والرافعي وإضرابهما؛ والزين لا يعدل بالزيات أديباً في مصر بل في الشرق. وهم يضحكون من أولئك الشعراء والأدباء المستغربين الذين يذكرون جوتة وشكسبير ولا يعرفون المتنبي والبحتري وشيخ المعرة، ويسميهم الهراوي بدجاج القريض، وفي رواية أخرى يغاث الشعر.
وكثيراً ما يدخل أدباء الحلمية في مناقشات حادة، وجدال عنيف، يصل ضجيجه إلى الشارع، ويطول فيه اللسان ويسفه، ولكنهم دائماً خلصاء أصفياء على الكراسي متقابلين.
ويجري أدباء الحلمية في فنون وأمشاج من أحاديث الأدب والنقد والدعابة، فإذا كان الحديث في ذكريات الماضي، فالهراوي فارس الحلبة، يزكيه الشيخ عبد الرسول؛ وإذا كان القول في أخبار الأدباء والشعراء فالحكم للزين والويل لمن يعترض؛ وإذا تكلم القوم في الشعر رأى الأسمر أن يخرج من وقاره فيخب ويضع؛ فإذا انتهى القوم إلى الدعابة حاولوا