أو جزعت، ولم يكن هذا كافياً لتنبيه عاطفة الأبوة التي قال لي صاحبي أن أكبر ظنه أنها راقدة. ولي الآن من البنين ثلاثة، وقد استطعت أن أوحي إلى نفسي حب بنتي التي ماتت، وحب أخرى جاءت وذهبت مثلها، وحب البنات على العموم دون البنين، أو أكثر من البنين، ولكني أدرك أن هذا فعل الإيحاء لا فعل الطبيعة، وأعرف من نفسي أني لا أعرف لبنيّ مثل ما يعرف الآباء غيري. نعم أشفق عليهم وأعني بهم، ولكني لا أشعر لهم بتلك الرقة التي أسمع بها. ويخيل إلي أن العادة هي منشأ ما أحسه لهم، وأني أرحمهم لأنهم صغار ضعاف، وأعني بهم لأني جئت بهم فأنا مسئول عنهم. وكثيراً ما أضجر وأمل، وأسأل نفسي متى يكبرون ويستغنون عني، فأحط عن كاهلي عبئهم، وأرتاح منهم، وأعيش وحدي مستقلاً عنهم؛ وأرحل وأغيب، فلا أحن إليهم إلا حنة المرء لعشيره وصديقه، ولمألوفه.
وكان لي أخ أسن مني، وكنت أوقر سنه، ولكني لم أكن أشعر له باحترام أو حب، كالذي يكون بين الأخوين عادة. ولم أبكه لما مات، وإنما سخطت على ضعفه الذي قتله، فقد كانت امرأته تركبه كالحمار، وكان يشكو لي هذا، فأضجر، وأقول له:(ما الفائدة؟ إنك ضعيف، وهي تركبك، ولا أمل فيك ولا خير في الشكوى، فاحتمل على قدر طاقتك، فما خلقك الله لغير هذا)
فيقول:(نعم، صدقت. يجب أن أحتمل) فأنهض من مجلسه مشمئزاً، وإن كنت فيما عدا ذلك أستظرفه وأستخف ظله، وأحب فكاهته، ولكن ضعفه كان يهيج نفسي عليه، وقد مرضت جدتنا فلم يعدها لأن امرأته أبت عليه ذلك، فلما ماتت جاء ليمشي في جنازتها، فأبيت عليه ذلك وقلت له:(كان الأولى أن تعودها في حياتها لتسرها على الأقل ولتعفيها من شعور الحسرة، أما الآن فأولى بك أن تذهب إلى بيتك) ففعل.
وانقطع ما بيني وبينه سنوات لم أشتق إليه فيها قط، ثم التقينا اتفاقاً فتصافحنا في صمت ثم نزعت يدي، ومضيت لشأني ومضى في سبيله. وقد قصصت هذا لأصف شعوري الحقيقي.
فهل هذه بلادة؟ أو هي نقص في بعض جوانب النفس؟ أم ذلك لأن عاطفتي الأدبية تستغرق نفسي كلها؟ أم لأن حبي لأمي استنفد ذخيرة النفس من هذا الحب؟ فقد كان حبي