ونجد نذراً كثيرة كهذه في السور المدنية التي نزلت ومحمد على رأس جيش عظيم وهو في منتهى قوته، نسوق منها ما يأتي:
(وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم؛ فإن أسلموا فقد اهتدوا، وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد)(س٣)(٢١)
(. . . كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون. ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون)(س٣)(١٠٤ - ١٠٥)
(لكل أمة جعلنا منسكاً هم ناسكوه فلا ينازعنك في الأمر وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم. وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون)(س٢٢)(٦٨ - ٦٩)
والآيات الآتية مأخوذة من السورة التي تعتبر على وجه الإطلاق آخر ما نزل من القرآن:
(وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله، ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون)(س٩)(٨)
إذاً فالإسلام منذ نشوئه دين تبشيري من الوجهتين النظرية والعملية؛ وحياة محمد مثلٌ لهذا المبدأ التبشيري، كما أن النبي نفسه قد ظهر على رأس جماعات تبشيرية عديدة نجحت في إدخال الكفار في الإسلام. ولا يصح فوق هذا أن نغتنم الأدلة على الروح التبشيرية في الإسلام فيما قام به أهل الاضطهاد من ضروب العنف والقسوة، أو أن نبتغيها في جهاد هذه الشخصية التي تكاد تكون إلى الخيال أقرب منها إلى الحقيقة، شخصية المحارب المسلم يحمل سيفه في إحدى يديه ويحمل القرآن في الأخرى؛ وإنما يجب أن نلتمسها فيما بذله المبشر والتاجر من جهد هادئ بعيد عن الفضول، فحملا دينهما إلى كل مكان على وجه الأرض. ويريدنا البعض أن نحذو مثالهم في الاعتقاد بأن المسلمين لم يلجئوا إلى مثل هذه الطرق السلمية في التبشير والإقناع إلا حين أقعدتهم الظروف السياسية فجعلت من المستحيل أو من غير الكياسة استعمال العنف والقوة، ولكن الحقيقة أن القرآن في كثير من الآيات يحض على الرفق في الدعوة؛ ومن أمثلة ذلك:
(واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلاً. وذرني والمكذبين أولي النَعْمة ومهلهم قليلاً)(س٧٣)(١١ - ١٢)