زهرتها النضرة قد اجتثت منها اجتثاثا، وانتزعت منها انتزاعاً، وحملتها الريح إلى حيث لا ينظر الزهر ولا تبتسم الحياة للحياة. لم أزر هذه الدار ولم أنعم بتلك الابتسأمة ولم أسمع ذلك الحديث ولكن الله يشهد إني قضيت أيام العيد كلها، ويظهر إني سأقضي أياما ًطويلة أخرى وأن صوتاً من الأصوات سيتردد في نفسي جافاً خشناً متعثراً موئساً كما تتردد النغمة من الأنغام في القطعة الطويلة من الموسيقى، وتسألني عن هذا الصوت الذي تردد في نفسي منذ أشهر وسيتردد فيها أشهراً وأشهراً وأعواما، فهو صوت ذلك النعش حين خرج الحاملون به من الصلاة في مسجد من مساجد القاهرة وهم يعالجون إثباته على سيارة من سيارات الموتى وهو يأبى عليهم بعض الإثم يطيعهم ويستسلم لهم، وإذا خفقة جافة كأقفال الباب، وإذا النعش قد استقر، وإذا أزيز ضئيل نحيل يرتفع في الميدان ثم يتسع ويضخم، وإذا السيارة تنطلق كأنها السهم إلى ذلك المكان الذي لا يعود منه من استقر فيه. وإذا نحن نتبعها كاسفين ونعود كاسفين، وإذا الحياة تتصل بنا وتضطرب خطوبها حولنا، وتصرفنا عن أنفسنا وعن الناس، ولكن ذلك الصوت الجاف الخشن المتعثر يعود إلي من حين إلي حين فيذكرني بذلك اليوم الثقيل الذي شيعت فيه فقيدين عزيزين في اقل من ساعتين.
بهذا وأمثاله كنت أتحدث إلى نفسي أيام العيد، فإذا سألتني عما كنت أتحدث فيه إلى الناس وعما كان الناس يتحدثون فيه إلى حين كنا نلتقي، فيا للبؤس! ويا للفقر ويا للشقاء! ويا لجدب الحياة وإفلاس الاحياء، كنا نتحدث عن الأزمة المالية، وكنا نتحدث عن السياسة، وكنا نتحدث عن غدو المندوب السامي مع الطير يوم العيد وما يحيط بغدوه ذلك من أسرار وأخبار ومن تأويل وتعليل. ثم كنا نتحدث عن بعض هذه الأشياء الممتازة التي ظفرت بأحاديث الناس وشغل الصحف وعناية رجال الأمن: كنا نتحدث عن ذلك الخاتم الذي اضطرب له رجال الأمن وعطلت له دار من دور التجارة، واتصل حوله تحقيق طويل ودقيق ولم تبح صحيفة مصرية عربية أو غير عربية لنفسها أن تعرض عنه أو تطوى أخباره عن قرائها، ثم اصبح الناس يوم العيد فإذا الصحف تنبئهم بأن سيدة التقطته أمام مدرسة من المدارس فظنت جوهره من الزجاج ولم تعلم انه حجر نفيس، وان مدينة القاهرة مضطربة له اشد الاضطراب، وان قيمته تربى على ألف من الجنيهات. وكنا نتحدث عن