للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الجمهور الأوربي كان يطيق من بودلير أو فرلين صراحة كصراحة أبي نواس والحسين بن الضحاك. إذاً يستحيل أن يكون بودلير أو فرلين هو الذي أغرى الدكتور باختيار شعر الحسين بن الضحاك أو شعر أبي نواس، لأن الأشد صراحة في المجون هو الذي يبيح ما هو أقل منه شدة. فأبو نواس هو الذي يبيح فرلين وبودلير، وليس بودلير هو الذي يبيح أبا نواس. وإذا عرفنا أن الدكتور تأثر بالشعر العربي الأشد صراحة في صباه ولم يطلع على الشعر الأوربي الأقل صراحة إلا بعد أن رسخ أثر الأول في نفسه علمنا أن ما زعمه الأستاذ من أثر الشعر الأوربي خاصة والأدب الأوربي عامة في التأثير على المؤلف وفي تعيين اختياره لما اختار في كتاب (حديث الأربعاء) زعم غير رجيح. وعلى هذا القياس يكون أيضاً زعمه غير رجيج في تعليل اختيار الدكتور طه حسين بك للقصص الفرنسية التي كان ينقلها إلى العربية، وكان ينشرها هيكل في السياسة الأسبوعية، وهي القصص التي يشكو منها الأستاذ الغمراوي فإنها مهما بلغت في صراحتها، أقل صراحة مما قرأه الدكتور طه في صباه من القصص العربية في كتاب (مصارع العشاق)، وغيره؛ وإذا يكون مثل الأستاذ الغمراوي في تعليله كمثل من يحسب السبب نتيجة والنتيجة سبباً، أو كمن يقوم بتجربة كيميائية في المعمل فيبدأ التجربة من آخر خطواتها سائراً إلى أولها. والحقيقة أن الأستاذ الغمراوي أحياناً في مقالاته يتخلى عن التعليل الطبيعي ويفضل التعليل المصطنع، ويتخلى عن ترتيب المؤثرات الطبيعي ويفضل الترتيب المصطنع. فهو مثلاً يقول إن في المذهب الجديد شططاً، وبدلاً من أن يعلل هذا الشطط التعليل الطبيعي القريب بما اكتسبته العقول والنفوس من شغف بتذوق التجارب النفسية والعقلية بسبب الحوافز الاجتماعية وغير الاجتماعية، وهذا الشغف قد يؤدي إلى الشطط؛ وبدلاً من أن يعلله بازدياد الحرية السياسية والقانونية وهي قد تؤدي إلى هذا الشطط؛ وبدلاً من أن يعلله بأنه من أثر نشر الطباعة العربية الحديثة للكتب العربية التي فيها أمثال ما يشكو منه كما علل المؤرخون الأوربيون بعض الشهوات في نزعة التجديد والإحياء في القرن السادس عشر في أوربا بطبع كتب الأدب الإغريقي القديمة - أقول بدل أن يأخذ بهذه الأسباب الطبيعية التي لها نظائر في التاريخ - والتاريخ يفسر بعضه بعضاً - تراه يغفل كل هذه الأمور ويقول: إن أعداء الدين الإسلامي من الأوربيين رأوا أنهم لا يستطيعون النيل من الإسلام قدر ما

<<  <  ج:
ص:  >  >>