وأعاد للدين بهجته، ولذ خصوه بأرفع منزلة في هيكلهم وأفردوه بغرفة خاصة يحل بها كلما زار دلفي. ونحسب نحن أن هذا هو الذي نفر منه خاصة الأدباء الذين هم قادة الرأي العام. . . والشعب الوثني هو أعرف الناس بآلهته، فلما أغرق بندار في هذه النزعة الدينية انصرف الجمهور عنه إلى سيمونيدز شاعر الحق والحكمة وتمجيد البطولة والأبطال.
وقد انتشرت أشعار بندار انتشاراً واسعاً بلغ مصر، وتغلغل في صحرائها إلى معبد أمون - زيوس في سيوه حيث نقشت أوراده الدينية على جدران المعبد وأعمدته بالذهب الخالص مما أدهش الإسكندر الأكبر وملك عليه لبه. . . لكنه كان إعجاباً طارئاً سرعان ما طغت عليه الذكريات القديمة المؤلمة. . . الذكريات التي لم ينسها اليونانيون لهذا الشاعر الكبير الذي خان وطنه الأكبر (هيلاس) بموقفه المزري في غزوة الفرس الكبرى. . . لقد انضمت بلاده للفرس ضد أثينا، فلم يحتج ولم تثر فيه النخوة الوطنية، بل راح ينظم القصائد في وجوب عقد الصلح. . . هذه صفحة بندار السوداء، الصفحة التي لم تنسخ ظلماتها شموس القصائد الغُر التي نظمها بعد ذلك في تمجيد أثينا وتخليد بطولة أبنائها. وهي قصائد أجود بكثير من كل ما نظم سيمونيدز في هذا المضمار. لكنها قصائد تشبه هدايا عضد الدولة للمتنبي. أغزر من هدايا سيف الدولة وأكثر، لكنها كانت ينقصها الروح!!
ولا نستطيع نحن أن ننقص من قدر أشعار بندار إذا قرأناها ولم نكن ملمين بتاريخه، بل ربما رفعناها إلى أعلى أوج يرتفع إليه شعر قديم أو جديد. . . فأشعاره إلهام رفيع ووحي علوي مما يعز على فحول الشعراء. . . وقد نظم كثيراً غير أوراده الدينية في الرياضة والرياضيين، وقد كانت أولمبيا تستهويه بأبطالها كما كانت دلفى تجذبه بآلهتها. . . وكان بندار يعيش عيشة فنية، فمسكنه كان متحفاً للصور والتماثيل والموسيقى والشعر، وكان مشغوفاً بالجمال ينشده في كل ما تقع عليه عيناه. . . في الطريق. . . في الحديقة. . في الملهى. . . في الماء. . . في السماء. . . في كل شيء
هذه هي الأطوار التي ترقى في مدارجها الشعر اليوناني قبل أن ينهض الدرام نهضته العجيبة الخارقة في القرن الخامس قبل الميلاد، وهؤلاء هم الشعراء المخلدون الذين مهدوا الذهن اليوناني لعصر النور والعرفان. . . عصر بركليس العجيب