ولقد كان الشاعر - وهو رئيس المنشدين - يقوم بأدوار عدة، من دور الملك إلى دور القائد إلى دور الجندي إلى دور الرسول. . . فكان لا بد له من تغيير ملابسه في كل حالة من هذه الأحوال. لذلك أعد له في جانب من جوانب ساحة الرقص (خص) أو خيمة ليبدل فيها ملابسه
وإذا كان الشاعر يقوم بكل هذه الأدوار في المقامة الواحدة فماذا كان يصنع في الأحاديث؟ قالوا إنه كان يستعين بممثل آخر ليكون الطرف الثاني في الحديث، وكانوا يسمون هذا الطرف الثاني ومعناها المجيب، ثم استعملت هذه اللفظة نفسها فيما بعد للممثلين. . . فكانت الفرقة القديمة تتكون عادة من شاعر ومجيبين (اثنين) وثمانية وأربعين راقصاً
وكانت الحكومة هي التي تؤتي الممثلين والراقصين أجورهم كما كانت تنفح الشعراء بجوائزها الثمينة السنية. أما الإخراج فقد كان الأغنياء يتحملون كل نفقاته، وذلك بأن يلجأ الشاعر إلى أحدهم فيعرض عليه أن ينفق على درامته من خالص ماله إلى أن تؤدي في المسرح، فكان المثري يستأجر للشاعر خورساً بأكمله ثم ينفق على الملابس والمناظر حتى يتم الإخراج كله. وكان الأغنياء يتباهون بهذا العمل ويتبارون في مضماره، ولا يبخلون بعزيز أموالهم عليه ولو ذهب بأكثرها، وكل ما كانوا ينشدون من جزاء هو شعور الفخر والزهو الوطني حين تنجح الدرامة التي أنفقوا عليها بعد العرض الأول. ويجب أن نذكر هنا أن جمهور النظارة بل الجمهور الأثيني كله في القرن الخامس قبل الميلاد كان قد أوتي حظاً عظيماً من الثقافة العامة، وكان قد تربى فيه ذوق فني رفيع نمته فيه ديموقراطية هذا العصر التي أكبرت من قيمة الفرد وأشاعت فيه كبرياء الحرية والشعور بالسيادة
وفي ظل هذه الديموقراطية تربى ذوق الأثنيين الفني حتى غدا ذوقاً أرستقراطياً مرهفاً يقدر الفن حق قدره ويزن آياته بالقسطاس المستقيم، فحينما كانت تعرض الدرامات في مسرح أثينا كان الجمهور نفسه هو الذي يصدر حكمه عقب الانتهاء من التمثيل. . . وكان الشعراء يرهبون هذا القاضي الجبار لأنهم كانوا يقدرونه. وكم كان جميلاً من أرسطو فأن في بعض مهازله أن يتملق النظارة ويبالغ في تمليقهم ويطلب إليهم صراحة أن يحكموا له. . . ولنتصور إذن قضاة يبلغ عددهم ثلاثين ألفاً أو يزيدون يصوتون للشاعر أو عليه، وما