إن سر النجاح في الحياة هو ما قاله سقراط: أن تعرف نفسك: وهكذا فعل انطون. فقد خلا إلى نفسه يوماً، وجعل يجهد فكره الكليل في معرفتها وفي الكشف عن أمرها. لعله إن يرى في ركن من أركانها كنزاً مخبوءاً، أو قوة مدفونة. فهداه طول التفكير، والتدبير الكثير، إلى إن له حنجرة ليس لها في العالم نظير. أجل وإنها لجديرة بأن ترفعه ويرفعها إلى المقام الأسمى والسِّماك الأعلى. وان ينفض بواسطتها غبار الفاقه الذي يوشك أن يقبره ويقبرها.
وكانت ساعة إلهام أدرك فيها انطون إن برلمان إنكلترا - أبو البرلمانات جميعاً - هو ميدانه الوحيد وميدان حنجرته العزيزة. . . عجباً كيف لم يوفق إلى هذا الكشف الهائل من قبل، فيقضى على عيش الضنك والفقر الذي لازمه طوال هذه السنين؟.
وفي مساء ذلك اليوم الخطير كان انطون جالساً - وحنجرته - إلى رئيس (المحافظين) يحدثه حديثاً شائقاً طليا. والصوت يدوي من حنجرته دويا - ولولا إن الريح في ذلك المساء كانت تهب من الجنوب، لسمع أهل فرنسا صدى تلك الحنجرة تنبئ الساكنين على ضفاف السين. إن على ضفاف التايمز رجالاً.
وأدرك رئيس المحافظين - ويا سرعان ما أدرك! - إي كنز قد ظفر به، وأي ذخر ثمين قد قدمنه الآلهة له ولحزبه! انهم بفضل هذه الحنجرة الرعدية لن يلبثوا طويلا حتى يتربعوا على دست الحكم، ويتحكموا في الدولة التي لا تغرب عليها الشمس.
ولم يبرح انطون مجلس الرئيس إلا وقد حمل في صدره - وفي جيبه - ألف دليل على إن نجم نحسه قد اودع في بطن الثرى وان نجم سعده قد اشرق في السماء لامعاً صاعداً.
كان انطون من رعايا الروس، وقد حاول السنين الطوال أن ينال الجنسية البريطانية، فلم تلق جهوده إلا الفشل. إن الجنسية البريطانية أجل وأثمن من أن تمنح للصعاليك أمثاله أما اليوم فقد جاءته تلك الجنسية تجرر اذيالها، وهي تمشي على استحياء، نزلت عليه من المحل إلا رفع من بعد طول تعزز وتمنع.
وفتحت بين يديه نوادي المحافظين، المفرطين في أرستقراطيتهم، وفي عزلتهم. فجعل يفشاها هو وحنجرته التي كان صداها يدوي في تلك الحجرات الهائلة، فتمتلئ بها الآذان وتميل نحوها الأعناق.