للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أردنا إثباته وهو أن شعراء الكفار كانوا هم البادئين بتلك الطريقة في الهجاء. ومع ذلك فإن ديوان حسان بن ثابت خليق بأن يسمى ديوان العبر لأن سادة المشركين الذين هجاهم صاروا بعد إسلامهم سادة المسلمين، وفي هجائه بعض ما لا ينقصه الإسلام ولا يغيره. وهذا الديوان إذا أخذ على علاته دلّ على حالة خلقية لا يتوقع القارئ أن تكون في ذلك الزمن. والسير على هذه الطريقة من غير رقيب أو وازع هو من الإخلال بروح الدين في عصرنا وهو عصر ينقاد فيه السذج لمن يريد أن يشفى حقده أو حسده ممن لا دين له ولا خلق وإن تظاهر بالدين والخلق، وهذه حقيقة لا مبالغة في تعبيرنا عنها وقد لا يكون الأستاذ الغمراوي ممن يعرفها لبعده عن هذه الطوائف وبعده عن أحقادها وأقذارها ولكنها حقيقة يستطيع أن يراها في المجادلات السياسية وخصومات بعض المشتغلين بالسياسة والصحافة والأدب؛ فليس من العسير أن يفهم المفكر وجودها في بعض النفوس التي تتخذ السذج من المتدينين قنطرة للوصول إلى غرض شخصي، أو في نفوس بعض الذين لا يفهمون أن الدين ينبغي أن يترفع أنصاره عن المجون؛ لكن كيف تفهم ذلك نفوس مزاجها ذلك المجون. والمزاج لا يستطاع تجنبه مهما كان المرء متديناً. فالخطأ الذي وقع فيه الأستاذ الغمراوي عندما حسب أن شدة التدين تعصم من الانهماك في الشهوات، أو أنها تعصم من لذة قول المجون إنما هو خطأ الذي يحكم على غيره بحالة نفسه؛ فإذا وجد نفسه متديناً يكره المجون ظن أن التدين يعصم من المجون. وليسمح لي الأستاذ الغمراوي أن أقول بكل رعاية: إن هذا الظن يدل على أنه لم يدرس خصائص النفس الإنسانية عامة في نفوس الناس دراسة غير المتحيز وغير المتعصب لطائفة دون طائفة، فإنه لو فعل ذلك لعلم أن مقدار ما في نفس المرء من مجون لا يعينه مقدار تدينه، حتى ولو وجدنا أمثال الأستاذ الذين يعصم تدينهم من المجون. ونحن لا نريد التعرض لشواهد من شعر ونثر الأدباء القريبي العهد كرامة وصيانة؛ وأما من عداهم من المتدينين وغير المتدينين فما على الأستاذ إلا أن يخالطهم وأن يدرسهم من غير أن يشعرهم أنه يدرسهم إلا إذا كانوا يهابونه كل الهيبة فلا يظهرون أمامه حقيقة نفوسهم. والخطأ الثاني الذي وقع فيه الأستاذ هو ظنه أن الشكوك الدينية تمنع الاعتقاد. والخطأ الثالث حسبانه أن عجز الكاتب عن منع إذاعة هواجس نفسه يدل على أنها أكثر تمكناً من نفسه؛ ومثل الأستاذ كمثل الذي يرى صنبور

<<  <  ج:
ص:  >  >>