للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

من الليل ساعات. . .

وكان معسكر المسلمين صامتاً مظلماً لا يرى في خلاله إلا النور الذي يسطع من الخيمة السلطان، وكان الجند نائمين يستريحون من عناء النهار الماضي الذي خاضوا فيه حرباً من أشد ما عرفوا من الحروب، وبذلوا جهد الجن حتى استطاعوا أن يشقوا الطريق إلى (عكا) المحصورة، وكان المدد يتتالى على جيش العدو من البحر، وكاد يجزع المسلمون عندما رأوا الإمداد، ولكن منظر السلطان ثبتهم، فقد كان ينظر إلى المراكب تحمل الصليبيين إلى البر، فلا يثنيه مرآها ولا يدخل الروع إلى قلبه، بل كان يراها مستبشراً متفائلاً مؤمناً بنصر الله. ولقد خبّر القاضي ابن شداد رفيق السلطان الجند وقص عليهم أن السلطان عدّ بنفسه من العصر إلى الليل سبعين مركباً نزلت إلى البر تنقل المدد والذخيرة فما ضعف ولا اضطرب، ولا تغيّر اعتقاده بالله الذي يعتقد بأن النصر من عنده. وكان السلطان أشد القوم تعباً لأنه كان يباشر أمور الحرب بنفسه، وينتقل خلال المعركة، ويعرض روحه للمهالك، ثم يبيت الليل ساهراً يدبر أمور المسلمين لا يبالي راحته ولا صحته في سبيل إعلاء كلمة الله.

في تلك الساعة كنت تلمح رجلين يتقدمان في الظلام يريدان معسكر المسلمين، وهما يخطوان بحذر، ويقفزان على الصخور بخفة ونشاط، وقد حمل أحدهما هنة صغيرة ملفوفة بخرقة بيضاء قد ضمها إلى صدره برفق، وأحاط بها يسراه بعناية، وأمسك بيمناه السيف مصلتاً خشية أن يفجأه كمين أو يعرض له عدوّ في هذه الظلمة الحالكة، وكانا صامتين. فلما جاوزا (اليزك) ودخلا مسكر المسلمين وأمنا، وضعا السيوف على الأرض وجلسا يستريحان وقد أبقى الأول حملة على ذراعه وأحاطه بطرف ثوبه مبالغة منه في العناية به، وقال لرفيقه:

- ماذا ترى السلطان قائلاً لنا؟ أتراه راضياً عن عملنا وهو الذي أوصانا ألا نعرض للنساء والأطفال، وألا نمس الأعزل بسوء، وأن ندع القسوس، ولم يسمح لنا إلا بسرقة المحاربين والجند؟ أفلا تحسبه يكره ما أتينا هذه الليلة ويكون غضبه علينا أضعاف رضاه عنا يوم سرقنا ذلك القائد من فراشه؟

فأطرق الثاني كأنما كان يفكر في غضب السلطان، ويبحث عن سبيل الخلاص من هذه

<<  <  ج:
ص:  >  >>