الوهدة التي سقطا فيها، ثم رفع رأسه فجأة وقد أشرق وجهه بنور الأمل وقال له:
- لماذا يغضب؟ أليس الله قد أباح لنا أن نردّ العدوان بمثله؟ أما بدأونا هم بمثل هذا أول مرة، وروّعوا نساءنا وسرقوا أطفالنا فلما صبرنا عنهم وترفعنا عن مقابلتهم بمثل فعلهم، ظنوا ذلك عجزاً منا فأوغلوا في عدوانهم الآثم الدنيء؟ أفندعهم يفعلون ما يريدون لا نمدّ إليهم يداً؟
واطمأن الأول إلى هذه الحجة، فقاما يسيران في هذه البقاع التي كانت في ما مضى رياضاً زاهرة وتلالاً خضراء معشبة، فجعلتها الحرب قفراً خالياً، وقبراً واحداً مفتوحاً، وألبستها ثوباً دامياً من أشلاء أبنائها، حتى بلغا خيمة السلطان فوجداها مضيئة فعلما أنه لم ينم، ووقفا ينتظران الإذن ليعرضا عليه ما جاءا به، لأنه كان يطلع بنفسه على كل كبيرة وصغيرة. . .
ومرت ساعة ومال ميزان الليل وهما واقفان، فسمعا حركة ورأيا رسولاً يحاول أن يدخل على السلطان وهم يمنعونه حتى أنبأهم أنه يحمل رسالة خطرة مستعجلة لا يجوز تأخيرها، فخبر السلطان فسمح له وقابله على خلوة لم يكن فيها إلا ابن شداد القاضي ثم خرج الرسول على عجل، وخرج من بعده ابن شداد معلناً أن السلطان سينام قليلاً، وكان ذلك في السحر. . . فأيس الرجلان من لقائه وذهبا ينتظران الصباح
ولما كان الصباح ذهب أول الرجلين يلقى القاضي ابن شداد يسأله عن أمر السلطان، وكان صديقاً له، فحدثه أن الرسول حمل إلى السلطان نبأ مروّعاً هو أن جيشاً من الصليبيين الألمان يزحف نحو الجنوب في عدد هائل، فلم يستطع أحد من أمراء المسلمين في الشمال أن يرده أو يقف في وجهه فأصبح المسلمون بين نارين
تفكر السلطان في الأمر، ثم جمع الملوك والقواد ولم يكن يقطع أمراً دون مشورتهم، فهبوا من فرشهم، وجفوا راحتهم في هذه الليلة العصيبة التي يلتمس الراحة في مثلها أشد الناس مراساً، وأكثرهم صبراً، فلما اجتمعوا عرض عليهم الأمر، فبذلوا له طاعتهم، ولكنهم تهيبوا الإقدام على هذين الجيشين، واضطربوا لهذا الخطب الذي لم يتوقعه أحد منهم، ولم يكن هؤلاء الملوك والقواد من الجبناء الرعاعيد، بل كانوا أبطال الحومة، وسادة الجلاد، ولم يفقدوا الإيمان الذي قابلوا به جيوش أهل الصليب كلها حين جاءت يحدوها التعصب