الذميم، ولا الشجاعة التي ردّوا بها هذه الجحافل الجرارة، وقسموها قسمين، قسم مصرُّع على الثرى قد ذهب ضحية العدوان الآثم، وقسم طائر على وجهه فزعاً لا يدري أين المحط، فتصدّع الخميس العرمرم تحت ضرباتهم المسددة وهتافهم المظفر، كما يتصدع القطيع من الغنم إذا سمع صوت الأسد وأخس أنيابه. . . ولم ينسوا طعم النصر الذي ذاقوه، ولا النهاية الماجدة التي ختمت الوقائع الماضية التي خاضوا غمرتها، ولكن لم يكن في تلك المعارك مثل هذا الخطب العابس الذي حمل نبأه الرسول. . . فغاضت الحماسة من صدورهم وإن لم تنفد، وسكنت قليلاً لتستجم وتنهض من جديد؛ أما نفس السلطان فلا تني ولا تلين، وحماسة السلطان لا تبلغ منها خطوب الدنيا كلها، وإنهم لمن العظماء ذوي النفوس الكبيرة، ولكن أنى لهم بمثل نفس السلطان وخلاله البارعة وبطولته الفذة التي تحققت مرتين فقط في تاريخ البشر كله: في عمر بن الخطاب وصلاح الدين الأيوبي، ولم تعرف في غيرهما إلا خيالاً يلوح ولا يظهر، وإشارات تلمح ولا تبصر!
فلما رأى السلطان هيبتهم صرفهم. ولبث وحده مهموماً يفكر. . .
قال الرجل: فماذا فعل السلطان كان الله له؛ كم يحمل وحدهم الأهوال التي تخرّ تحتها الجبال، وتعجز عن حملها الأمم!
قال ابن شداد: جلس يدبر أمره، ويرسم خطط القتال وهو مهموم قد أخذ منه التعب والنعاس، وأنا أنظر إليه ليس معنا ثالث إلا الله، فسألته أن ينام ساعة فيستريح؛ فظن أني قد نعست فقال لي:(لعلك جاءك النوم.) ونهض. . . فخرجت أمشي إلى خيمتي فلم أصل إليها وآخذ في بعض شأني حتى أذن الصبح. فعدت لأصلي معه على عادتي، فوجدته يمر الماء على أطرافه فقال لي حين نظر إليّ:(ما أخذني النوم أصلاً) فقلت: قد علمت. قال: من أين؟ قلت: لأني ما نمت وما بقي وقت للنوم
ثم اشتغلنا بالصلاة وجلسنا على ما كنا عليه، وجعلت أفكر في أمره وما يحمل من الهمّ وما ورد عليه من الشدة وذكرت أن قتيبة بن مسلم وقع في إحدى الشدائد وهو يحارب الأتراك وضاق به الأمر، وتكاثر عليه العدو، وبذل كل ما يستطيع من القوة والمكيدة فلم يغن ذلك عنه شيئاً. فقال: أين محمد بن واسع؟ قالوا: هو في أقصى الميمنة جانح على سية قوسه يومي بإصبعه نحو السماء. فتهلل وجه قتيبة واستبشر ووثق بالنصر، وقال: والله لتلك