تولول وتصيح. . . فأخذتهم الشفقة بها ولكنهم كانوا عاجزين عن معونتها. فصمتوا، وبالغت في البكاء والتوسل، فرأى قائد منهم أن يبعث بها إلى صلاح الدين
- إن الرجل شهم وشريف، وفارس نبيل، وما نحسبه يسد أذنيه دون شكوى امرأة مفجوعة تسقط على قدميه باكية ذليلة ترجوه أن يرد عليها ولدها الوحيد. . . وهو الذي قبض بالأمس على قائد الحملة الفرنسية، فلما صار بين يديه وانتظر القتل لم ير منه إلا الإكرام والإحسان، خلع عليه وقدّمه ورفع مجلسه وسَّيره إلى دمشق معزّزاً مكرماً، فلم يستطع القائد أن يرفع بصره إليه لعجزه عن شكره، ولخجله من نفسه حين قابل بين صنيع السلطان به، وصنيعه هو بمن أسرهم من قواد السلطان. . .
ووافق القواد على ما وصف به صلاح الدين من النبل والشرف والإنسانية، فسيروا المرأة إليه، فانطلقت تعدو حتى تقطعت أنفاسها وهي تتحامل على نفسها وتعود إلى السعي تريد أن تقطع الطريق كله بوثبة واحدة ترى من بعدها ابنها، أو يكون فيها حتفها، وتخشى أن تتأخر لحظة فيصيب ابنها شر. . . يا رحمة الله على الأمهات! وكانت نفسها كالبحر الغضبان لا تستقر فيه موجة حتى يموج موجة أخرى. . . وكانت الصور تتردد على نفسها متعاقبة يأخذ بعضها بأعقاب بعض، فبينما هي تتصور فرحها بلقاء الطفل فتقدم مسرعة، إذا بها تفكر في هلاكه فتقف لحظة كأنما لطم وجهها القدر بكفه، ولكنها تطرد هذه الصورة من نفسها ولا تطمئن إليها، ويعاودها الأمل قويًّا منيراً، ويخالط الأمل خوف وإشفاق، ثم تمرّ عليها صور من حياتها الأولى تجوز آفاق نفسها بسرعة البرق فتهزها هزًّا عنيفاً ثم تمضي إلى غايتها وترجع صورة الولد فتحتل خيالها كله. . .
حتى بلغت (اليزك) فصاحوا بها: قفي. فوقفت تنظر ماذا يريدون. . . ولم تكن تدري ما (اليزك) وما الحروب، وما جاء بها إلا إيمانها الذي استغله دعاة الشر وسخروها من أجله لمنافعهم فحرموها زوجها وطفلها وجرعوها كما جرعوا الآلاف المؤلفة من البشر غصص الآلام!
وجعلت تصرخ فيهم صراخ اللبوة التي فقدت أشبالها، وتخاطبهم بالفرنسية:
- ابني، ابني أيها الجند؟ ردّوه عليَّ، أريد ابني، فلماذا تمسكونه؟ لماذا تعذبون امرأة مسكينة؟ أين هو؟ هل قتلتموه؟ لا، لا أرى على وجوهكم سمات الوحشية. إني ألمح الشفقة