تخاصم أهل النار وتحدث أهل الجنة، والواقفين على الأعراف، والولدان المخلدين، والكواعب الأتراب، ومخاطبة العزيز اللطيف لمن فاز من عباده، وغيظ الكافرين وما يقع بينهم وبين إبليس من شحناء وموجدتهم على الشياطين والنار تؤزهم. . .؟
هذا هو القصص الحق الذي لم تبهرجه يراعة مؤلف، ولم يختلقه خيال روائي. وهذا هو قصص الله الذي خلق الإنسان علمه البيان. . . الله الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم. . . الله الذي أرسل للناس نبياً عربياً من الأميين، فقضى أن تكون أمية عجيبةُ معجزة تفهم كل شيء وتعي كل شيء، وتبهر المتعلمين والدارسين بما لا يستطيعونه ولا يقدرون على مثله أو بعضه. . . أمية أعدها الله لهذا الأمر العظيم إعداداً لا تقوى جامعاتنا الحديثة على شيء مثله. . . أمية أبوتها في بني هاشم، وخئولتها في بني زهرة، ورضاعها في سعد بن بكر، ونشأتها في قريش، وزواجها في بني أسد، وهجرتها إلى الأوس والخزرج. فانظر كيف تقلبت في القبائل فتمرست بها، ووعت لغاها، ووقفت على أسرار بيانها، فلما بعثها الله لهذا الأمر لم تضق ذرعاً بأحد، ولم تضق فهماً بلسان أحد، بل كانت تكلم كلاً بلسانه، وترد على كل بلهجته. بل هي قبل أن يبعثها الله لتبليغ رسالته كانت تحب الأدب وتشغف به، فكانت تتردد على الأسواق تصغي إلى الشعراء الخطباء، وتحفظ من الخطب ولا ترى حرجاً في أن تروي منها.
علل أحد البصربين أمية الرسول الكريم: فقال: (إن الله إنما جعل نبيه أمياً لا يكتب ولا يحسب ولا ينسب ولا يقرض الشعر، ولا يتكلف الخطابة، ولا يتعمد البلاغة لينفرد الله بتعليمه الفقه وأحكام الشريعة، ويقصره على معرفة مصالح الدين دون ما تتباهى به العرب من قيافة الأثر، وعيافة الطير، ومن العلم بالأنواء وبالخيل، وبالأنساب وبالأخبار، وتكلف قول الأشعار، ليكون إذا جاء القرآن الحكيم، وتكلم بالكلام العجيب، كان ذلك أدل على أنه من الله. . . وزعم أن الله لم يمنعه معرفة آدابهم وأخبارهم وأشعارهم ليكون أنقص حظاً من الحاسب والكاتب، ومن الخطيب والناسب، ولكن ليجعله نبياً، وليتولى أمر تعليمه بما هو أزكى وأنمى، فإنما نقصه ليزيده، ومنعه ليعطيه، وحجبه عن القليل ليجلي له الكثير. . .)
وقد تولى شيخ أدباء العرب أبو عثمان الجاحظ (البيان ج١ ص٢٣٠) نقض هذا الكلام