فقال:(وقد أخطأ هذا الشيخ ولم يرد إلا الخير، وقال بمبلغ علمه ومنتهى رأيه، ولو زعم أن أداة الحساب والكتابة، وأداة قريض الشعر وجمع النسب قد كانت فيه تامة وافرة مجتمعة كاملة، ولكنه صلى الله عليه وسلم صرف تلك القوى وتلك الاستطاعة إلى ما هو أزكى بالنبوة وأشبه بمرتبة الرسالة، وكان إذا أحتاج إلى البلاغة كان أبلغ البلغاء، وإذا أحتاج إلى الخطابة كان أخطب الخطباء، وأنسب من كل ناسب، وأقوف من كل قائف، ولو كان في ظاهره والمعروف من شأنه أنه كاتب حاسب، وشاعر ناسب، ومتفرس قائف، ثم أعطاه الله برهانات الرسالة وعلامات النبوة، لما كان ذلك مانعاً من وجوب تصديقه، ولزوم طاعته، والانقياد لأمره، على سخطهم ورضاهم، ومكروههم ومحبوبهم؛ ولكنه أراد ألا يكون للشاعر متعلق عما دعا إليه، حتى لا يكون دون المعرفة بحقه حجاب وإن رق، وليكون ذلك أخف في المؤنة، وأسهل في المحنة، فلذلك صرف نفسه عن الأمور التي كانوا يتكلفونها ويتنافسون فيها، فلما طال هجرانه لقريض الشعر وروايته صار لسانه لا ينطق به، والعادة توأم الطبيعة، فأما في غير ذلك فإنه إذا شاء كان أنطق من كل منطيق، وأنسب من كل ناسب، وأقوف من كل قائف، وكانت آلته أوفر، وأداته أكمل. . . إلا أنها كانت مصروفة إلى ما هو أبعد. . . وبين أن يضيف إليه العادة الحسنة، وامتناع الشيء عليه من طول الهجران له فرق. . . ومن العجب أن صاحب هذه المقالة لم يره في حال معجزة قط، بل لم يره إلا وهو إن أطال الكلام قصر عنه كل مطيل، وإن قصر القول أتى على غاية كل خطيب، وما عدم منه إلا الخط وإقامة الشعر. . . الخ)
فالجاحظ هنا يحامي عن معرفة النبي لآداب العرب - وهو ما يعنينا - وعن إلمامه بما كان فخر قومه ومحل نبوغهم. . . ولما كان أعز ما يفتخر به العرب هو البيان فإنه لم يمنع النبي مانع إذا أراد البلاغة أن يكون أبلغ البلغاء، وإذا أراد الخطابة أن يكون أخطب الخطباء، وإنه أن أطال لكلام قصر عنه كل مطيل، وإن قصر لقول أتى على غاية كل خطيب. . .)
وهذا دفاع مجيد من شيخ الأدباء العرب عن النبي الأديب الأعظم في معرض ما فهم أحد علماء البصرة من أمِّية محمد صلى الله عليه وسلم، وهو دفاع رجل كان يهب حياته للأدب، وكان يعنى بأدب الرسول خاصة، وكان يصف كلامه فيقول: (هو الكلام الذي قل