عدد حروفه، وكثر عدد معانيه، وجل عن الصنعة، ونُزّه عن التكلف، وكان كما قال الله تبارك وتعالى قل يا محمد:(وما أنا من المتكلفين) فكيف وقد عاب التشديق، وجانب أصحاب التقعير، واستعمل المبسوط في موضع البسط، والمقصور في موضع القصر، وهجر الغريب الوحشي، ورغب عن الهجين السوقي فلم ينطق إلا عن ميراث حكمة، ولم يتكلم إلا بكلام قد حُفّ بالعصمة، وشُيّد بالتأييد، ويسر بالتوفيق
(وهذا الكلام الذي ألقى الله المحبة عليه، وغشّاه بالقبول، وجمع له بين المهابة والحلاوة، وبين حسن الإفهام وقلة عدد الكلام، ومع استغنائه عن إعادته، وقلة حاجة السامع إلى معادوته، لم تسقط له كلمة، ولا زلت له قدم، ولا بارت له حجة، ولم يقم له خصم، ولا أفحمه خطيب، بل يبذ الخطب الطوال بالكلام القصير، ولا يلتمس إسكات الخصم إلا بما يعرفه الخصم، ولا يحتج إلا بالصدق ولا يطلب الفَلج إلا بالحق، ولا يستعين بالخلابة، ولا يستعمل المواربة، ولا يهمز ولا يلمز، ولا يُبطئ ولا يعجل، ولا يسهب ولا يحصر. ثم لم يسمع الناس بكلام قط أعم نفعاً، ولا أصدق لفظاً، ولا أعدل وزناً، ولا أجمل مذهباً، ولا أكرم مطلباً، ولا أحسن موقعاً، ولا أسهل مخرجاً، ولا أفصح عن معناه، ولا أبين في فحواه، من كلامه صلى الله عليه وسلم كثيراً. . .)
والذي وصف به الجاحظ كلام الرسول قول حق، وهو كان يفضل به كلامه صلى الله عليه وسلم على كل كلام العرب، أما نحن فنجعل حكم الجاحظ أعم وأشمل. فليس في كلام أحد من الفرنجة قاطبة كلام يشبه كلام الرسول فيما رسمه الجاحظ. . . وقد يقول قارئ غير مسلم:(كاتب مسلم متحمس للرسول فهو لا يستطيع أن يقول غير هذا!) كلا والله. . . فلقد قرأت ودرست أدب الأقدمين شعراً ونثرا وخطبا؛ ولقد قرأت ودرست أدب النهضة في جميع الممالك الأوربية؛ ولقد قرأت ودرست ووازنت بين أدباء عصر بركليس وأدباء عصر إليصابات، وأدباء عصر لويس، وأدباء القيصرية الروسية، فلا والله ما وجدت أجدهم يرتفع إلى أدب الرسول ولا يحكيه غزارة ورقة وازدحاما بالمعاني وشمولا للأغراض. وهذه هي خطب ديموستين في التبغيض في الأرستقراطية والتبشير بالديمقراطية. . . أين هي من هذه المساواة العجيبة التي أقامها محمد بين هذه الملايين بقوله: إنه لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى؟ بل أين هذا الخطيب الوضيع المرتشي