ومن الظلم للفن أن نطلق اسم الفنون على هذه الأغاني المرقصة التي تهتز لها أعطاف بعض السامعين في الأقطاب الشرقية
فالحق أنها نقيض الفنون في جوهرها المشترك بين جميع المعاني الفنية
لأن الجوهر المشترك بين جميع المعاني الفنية هو تغليب الفكرة على المادة، أو سيطرة المعاني على الأشكال
فالرخام مادة تتغلب عليه فكرة الفنان فإذا هو مثال لمعنى من معاني الجمال
والكلمات مادة مبعثرة تتغلب عليها فكرة الشاعر أو الكاتب فإذا هي وحي ناطق بأحاسيسه ومعانيه
والجسم مادة تتغلب عليه الحركة الموزونة فإذا هو رقص يريك كيف تساق الأعضاء في مطاوعة الألحان والأصداء، وكيف تخضع الأجسام لإملاء النظام والرواء
كل فن فهو فكرة غالبة على ما على مادة، أو معنى غالب على شكل، أو فوضى ممثلة في صورة جميلة
فما هي المرقصات التي تهز الأعطاف بين جمهرة السامعين من سواد الشرقيين
هي نقيض ذلك
هي غلبة الجسدي على المعنوي، وهي طغيان المادية على المطامح الإنسانية، وهي انقياد وليست هي بإخضاع وترويض وتنظيم
هي الشيء الذي يذهب سفلاً حين يذهب الفن صعداً، وهي الفتور الذي يهبط بالأجسام إلى مهاوي الشهوات، وليست هي بالنشاط الذي يطير بالأجسام في فضاء المرح والطلاقة
وقد تسف وتنحدر من سماء شتراوس إلى حضيض (الجازنبد) الذي لا شك في غلبة الشهوات عليه، فهل من عين بصيرة يغم عليها الأمر فلا تبصر الفارق بين شهوات الجازبند وشهوات المرقصات المعهودة في هز الأعطاف وتحريض النزعات؟
الجازبند مرح جسدي ولكنه مرح حيوان صحيح ممتلئ برغبات الحياة يصول في حركة حية لا تعرف الإعياء
أما (هز الأعطاف) المعهود فهو مرح جسدي أيضاً ولكنه يذهب بصاحبه إلى السرير ولا يندفع به اندفاع الحيوان القوي السليم