الأمرين نهج هو أملك به، وطريق لا يشاركه الآخر فيه. وليس ما رسمته لك في هذا الباب بمقصور على الشعر دون الكتابة، ولا بمختص بالنظم دون النثر. بل يجب أن يكون كتابك في الفتح والوعيد خلاف كتابك في التشوّق والتهنئة واقتضاء والمواصلة، وخطابك إذا حذرت وزجرت أفخم منه إذا وعدت ومنيت.
فأما الهجو فأبلغه ما جرى مجرى الهزل والتهافت، وما اعترض بين التصريح والتعريض، وما قربت معانيه وسهل حفظه، وأسرع علوقه بالقلب ولصوقه بالنفس. فأما القذف والإفحاش فسباب محض، وليس للشاعر فيه إلا إقامة الوزن وتصحيح النظم)
وقال ابن رشيق في العمدة:
(يجب للشاعر أن يكون متصرفاً في أنواع الشعر من جد وهزل وحلو وجزل، وألا يكون في النسيب أبرع منه في الرثاء، ولا في المديح انفذ منه في الهجاء، ولا في الافتخار أبلغ منه في الاعتذار، ولا في واحد مما ذكرت أبعد منه صوتاً في سائرها؛ فإنه متى كان كذلك حكم له بالتقدم وحاز قصب السبق كما حازها بشار وأبو نواس بعده). . . الخ.
٦ - ومن قولهم في حرية الأدب قول صاحب الوساطة:
(فلو كانت الديانة عاراً على الشعراء، وكان سوء الاعتقاد سبباً لتأخر الشاعر، لوجب أن يمحى اسم أبي نواس من الدواوين، ويحذف ذكره إذا عدت الطبقات، ولكان أولاهم بذلك أهل الجاهلية، ومن تشهد الأمة عليه بالكفر، ولو جب أن يكون كعب بن زهير وابن الزِّبدي وإضرابهما ممن تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجاء، وعاب من أصحابه، بكما خرساً وبكاء مفحمين؛ ولكن الأمرين متباينان والدين بمعزل عن الشعر).
٧ - ومن قولهم في صفات الناقد:
قال ابن قتيبة في مقدمة الشعر والشعراء: (ولم أقصد فيما ذكرته من شعر كل شاعر مختار له سبيل من قلد أو استحسن باستحسان غيره، ولا نظرت إلى المتقدم منهم بعين الجلالة لتقدمه، ولا المتأخر منهم بعين الاحتقار لتأخره، بل نظرت بعين العدل على الفريقين، وأعطيت كلا حقه، ووفرت عليه حظه. فإني رأيت من علمائنا من يستجيد الشعر السخيف لتقدم قائله، ويضعه موضع متخيرة، ويرذل الشعر الرصين ولا عيب له عنده ألا أنه قيل في زمانه ورأى قائله. ولم يقصر الله الشعر والعلم والبلاغة على زمن دون زمن، ولا