إذا أنه لو فعل كما قال إنه فعل لقتله الفاتكون. ولكن المشهود في القصيدة روعة الصنعة وفخامتها لا عمق العاطفة. والحق أن البحتري إذا ملك صناعته ولم يتكلفها أتى بها وهي في بهجتها وحلاوتها حقيقة بالمدح الذي مدح به البحتري منزلة ممدوحة في قوله:
وأصدق قول يقال في البحتري وأبى تمام هو ما قاله البحتري نفسه إذ قال إن جيد أبي تمام خير من جيدة، ورديء أبي تمام شر من رديئة. ومثل هذا القول يصح أن يقال أيضاً في البحتري وأبن الرومي، ولا نعني بالجودة الصناعة فحسب بل كل ما ينهض به الشعر من ميزات. وللبحتري قصائد في العتاب هي من أجل ما كتب في اللغة العربية في هذا الباب ولا سيما عتابه للفتح بن خاقان في قصيدته البائية التي يقول فيها:
ولو لم تكن ساخطا لم أكن ... أذم الزمان وأشكو الخطوبا
والميمية التي يقول فيها:
أعيذك أن أخشاك من غير حادث ... تبيّن أو جرم إليك تقدّما
وفي صنعة عتابه كما في صنعة مدحه حلاوة وسهولة المتناول، وليس فيها اللجاجة الفكرية التي بذلها ابن الرومي في قصيدته في العتاب التي يقول فيها (يا أخي أين ريع ذاك اللقاء). على أن هذه القصيدة لابن الرومي لا تمثل إلا ناحية واحدة من نواحي مقدرته في العتاب فله نواح أخرى منها ناحية العتاب الممزوج بالهجاء، ومنها ناحية العتاب الذي فيه خضوع للمعاتب. وابن الرومي أوسع مقدرة من البحتري وأكثر نصيباً من ذخائر اللب وإن كان البحتري أوفر نصيباً من بهجة الصنعة.
وقد جاء في كتاب الأغاني وصف إنشاد البحتري لشعره: فقال المؤلف إنه كان يتشادق في إنشاده، ويتزاور، ويتمايل، ويلوح بكمه، ويتقدم ويتاخر، ومعنى هذا الوصف أنه كان يُمَثَّل كما يصنع الممثل على المسرح، وإني أميل إلى تصديق هذه الرواية إذ أنها تؤيد ما ذهبت إليه من أن البحتري كانت عنده صفة يكثر ظهورها في بعض الممثلين، وهي اختلاط الأحاسيس التي يمثلونها بحقائق الحياة حتى يصعب التمييز بينهما، وقد ضربت من أمثال ذلك مثلاً من غزله ومن رثائه للمتوكل. ولم يكتف البحتري في إلقائه بطريقة الممثلين في الإنشاد، بل كان ينظر إلى الحاضرين ويطلب منهم الاستحسان ويلومهم إذا لم يظهروا