الحواس على أحاسيس وانفعالات وعواطف مختلفة، فتخلطها وتمزجها وتنتجها بعد ذلك فناً تعبر به عن اتجاه صاحبها في الحياة. فإذا كنت في غنى عن هذا فإن عليَّ أن أقف عند النحت وقفة خاصة أقرا فيها أن النحت هو فن الصمت وأنه بهذا كان أقرب الفنون من التصوف. فالنحات يسجل في تمثاله خفقة واحدة من خفقات الروح لا يفتأ ينتظرها ويتوقعها ويبحث عنها حتى إذا ما سطعت له مرتسمة على الجسم عامة، وعلى الوجه خاصة، تعلق بها وطبعها على روحه أو قل إنه يطبع روحه عليها ويرصدها عنده أرصاداً ويقفها عليها وقفاً. وهو بهذا يختلف عن الأديب الذي يتنقل في موضوعه من خاطر إلى خاطر، والذي يطلق وصفه لهذه الخفقة نفسها من ناحية إلى ناحية، والذي يأخذ قارئه في طوافه بها من جانب إلى جانب، وهو في هذا غير الموسيقى الذي يسلسل اللحن ويوالي التنغيم ليؤدي باللحن بعد تمامه ما يؤديه النحات باللمحة التي خطفها من الطبيعة وثبتها في تمثال فخلدها عليه. وهذا الأداء الذي يؤديه النحات لهو أشق وأعصى ما يرجوه الفن من الفنان، فليس يسيراً أن يلحظ الإنسان كل ما ينتاب الناس من اهتزازات الروح؛ وإذا كان من هذه الاهتزازات ما يبقى مواجهاً للعين والحس لحظة أو لحظات، فإن فيها ما يتلاشى أثناء تكوينه!. . . كلهفة الإعجاب التي تنتاب امرأة متزوجة عندما تلمح تحت بصر زوجها وسمعه شاباً يروقها، فهي لا تكاد تسمح لوميض الإعجاب أن يلمع في عينيها إلا ريثما تهب عليه نسمة من خجلها وريائها أو عفتها تطفئه وتخمده. هذه اللهفة قد يصفها الكاتب، وقد يصفها الشاعر، وقد يصفها الموسيقي موصولة بغيرها؛ وقد تؤديها ممثلة خيراً من أدائهما إذا كان بين النساء ممثلات فيهن من دقة الفهم والحس ما يقف بهن عند هزة خاطفة من هزات الروح كهذه؛ وقد يؤديها أيضاً رسام مستعيناً عليها بالألوان والظلال. . . ولكنن لا أتصور أن فناً من هذه الفنون جميعاً يؤتمن عليها مثلما يؤتمن عليها النحت الهادئ. ذلك أن قلة الأدوات التي يستعملها النحات في فنه تبعثه على الاستعاضة عن التيسير الذي تتيحه الأدوات لأصحاب الفنون الأخرى بطاقة كبرى من روحه يجود بها على فنه، إذ ما قد يستطيع غيره أن يمسك من شعاع النفس لا يملك النحات إلا أن يبذله
والنحات لا يهتدي إلى أمثال هذه اللمحات السريعة التي رأينا أحدها إلا إذا عاش وهو حديد البصر يكاد يلتهم كل ما يراه التهاماً، فإذا ما وقع على شيء مما يطلبه جمدت عنده نفسه.