للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وما أشق جمود النفس على صاحب الفن، ولكنه عند النحات هو السبيل الوحيد الذي يرصد به فنه لا يغنيه عنه التسجيل على الورق، ولا ترضيه عنه الاستعادة والاستذكار، فهو إذا قنع بهما رأى آخر الأمر أنه فقد شيئاً مما كان يطلبه، وهو لا يريد أن يفقد مما يطلب شيئاً لأنه يطمع دائماً في التوفيق إلى محاكاة صنع الله لأنه يدرك أنه ليس وراء فن الله فن. لهذا كان أكمل المثالين هو هذا الذي يستغرق في موضوعه منذ أن يهتدي إليه إلى أن يؤديه؛ وهذا الاستغراق - كما قد يعلم القارئ - يركز إحساس النحات أو المثال في لمحة من حركة أو سكنه من سكنات وضع. وعلى من يريد أن يتصور مشقة هذا وثقله على النفس والروح والبدن أن يجربه وان يرى كم من الزمن يستطيع أن يستمر فيه. . . فليبتسم ابتسامة رضى وليشعر معها بالرضى وليظل هكذا ولير كم يستطيع أن يظل؟ فليقطب تقطيبه أسى، وليشعر معها بالأسى وليظل هكذا ولير كم يستطيع أن يظل؟!

هذا عمل لا يستطيع غير النحات أن يؤديه، وهو لن يكون نحاتاً متمكناً إلا إذا استطاع أن يؤديه. . . ومن العجيب أن النحات يطلب من أنموذجه أن يكون مرآته، وأن يعينه على تهيئة الجو الذي يريد أن يندمج فيه، وهو في هذا معذور مسكين. . . فهو حين يؤدي بروحه وبجوارحه ما يريد أن يسجله لا يرى نفسه ولا يستطيع أن ينقل عن صورته. . . عندئذ يضطر أن يشرح للأنموذج ما يطلب أن تكون عليه هيأته؛ وقليلاً ما يوفق النحات إلى طلبته، ولعل قلة التوفيق هذه هي التي تلقي في نفوس النحاتين الغرام بنماذجهم المطاوعة، فكم سمعنا بنحات يتزوج من أنموذجه بعد أن يفرغ من صنع تمثالها مهما كانت هذه الأنموذج فقيرة أو جاهلة أو ساقطة. . . فهو لا يرى فيها إلا أنها مرآة تتلقى حسه وتعكسه في وجهها

هذا هو النحات الحساس كما يريده الفن أن يكون

وهناك نحات آخر فيلسوف صاحب فكرة يرمز إليها بتمثال. ولعل مختاراً رحمه الله كان من هذا النوع حين أراد أن يكون من النوع الثاني فلم تسعفه موهبته. ونظرة واحدة إلى نهضة مصر مع نظرة واحدة أخرى إلى تمثال سعد زغلول في القاهرة أو في الإسكندرية تؤيدان هذا الرأي الذي أذهب إليه، فَهمَّة أبى الهول في التمثال الأول ليست إلا رمزاً لفكرة معجزة في سهولتها أدى بها مختار معنى النهضة بما لا يمكن - في إيماني - أن يهتدي

<<  <  ج:
ص:  >  >>