فإذا ركب متن الهواء وألقي بالنار في الفضاء، فلا عليه بعد ذلك أن يلبث في مكانه هنيهة واحدة ليشهد الخراب والشقاء، ويسمع الصياح والبكاء، ويندم على ما أساء، إن ظن أنه أساء
أما الذي يرى الفجيعة بعينيه ويسمع الصيحة بأذنيه فليست الرؤية بمانعة له أن يصنع بأعدائه ما صنع به أعداؤه، بل لعلها حافزة له إلى الشر ومثيرة له إلى القصاص، ومضيفة إلى رزق المريخ الذي خيفت عليه المسغبة في العصر الحديث: عصر الشعور اللطيف والإنسانية المهذبة، والرفق بالحيوان قبل الإنسان!
ولكل سم ترياق!
العلوم الحديثة قد حالت بين القاتل والفريسة، ولكنها لم تحل بينه وبين أشباحها وأطيافها
فإذا احتجبت عنه جرائر صنعه فهنالك الصور المتحركة تعيدها إلى عينه وإلى كل عين ناظرة كأنها ضمير النادم أو لسان التبكيت والتعزير.
فهل في العلوم ترياق لسم العلوم؟ عسى أن ينفع ذلك الترياق إن صح أنه ترياق
فليس أبشع من صورة الحرب المكسوبة إلا صورة الحرب المفقودة، كما قال ولنتون ونحن نعلم من هو ولنتون. . هو كاسب المعركة التي هيهات أن يفرح بالنصر أحد إن لم يكن فيها سرور لقائدها المنصور، لأنه كان نصراً على نابليون سيد المنصورين والمهزومين
فإذا كان قصارى النصر أن يهون البشاعة فأخلق بالناظرين الذين لا ينتصرون فيها ولا ينهزمون أن يلمسوا كل ما فيها من بشاعة مرذولة بغير تهوين، وأن يقاوموا بشعور المقت والنفور ما أبطله الحجاب بين القاتل وصرعاه في حروب هذا الزمان
ولكل ترياق آفة!
نعم لكل ترياق آفة تفسد ما فيه من شفاء، إن لم تعالجه يد تحسن العلاج
فمن أين لنا أن الصور المعروضة على الناظرين تعودهم أن ينظروها ولا تعودهم أن يمقتوها ويغضبوا على آثميها؟
من أين لنا أننا نشحذ الضراوة ولا نشحذ الرحمة بذلك التمثيل والتقريب؟
الأمر كله موقوف على طريقة التناول وطريقة التلقي وطريقة التعويد، وذلك الذي يقف بالترياق الناجح بين الآفة والشفاء