أما الفيلسوف الكبير أناجزاجوراس فقد كان أستاذ يوريبيدز وصديقه في وقت معاً. وأناجزاجوراس هو أول من حمل الفلسفة من شطئان إيونيا في غرب آسيا الصغرى إلى أتيكا أرقى أقاليم اليونان. وهو أول من ثار على الفلسفة المادية البحتة ولفت الناس إلى القوة العليا التي تدبر كل شيء وتسهر على كل شيء. . . ثم هو الذي أربك الماديين بتفريقه بين المادة المجسدة التي زعموا أنها كل شيء، وبين العقلية المجردة التي زعم هو أنها تسيطر على كل شيء. فوضع بذلك الحدود بين الجسم والعقل وبين الطبيعة والإنسان.
وقد كان أناجزاجوراس صديقاً لبركليس العظيم ومستشاراً له وكان في أثينا حزب يناوئ بركليس، فاستغلت السياسة الذميمة مذهب الرجل الفلسفي فرمته بالإلحاد واتهمته بالتجديف على الآلهة، وكادوا أن يبطشوا به بعد أن لفقوا له التهم وساقوه إلى المحاكمة أمام هيئة قضائية من رعاعهم. . . لكن بركليس لم يتخلى عنه، بل دبر له الهرب من أثينا، فارتحل إلى موطنه في آسيا الصغرى حيث وضع رسالته في فلسفته التي انتفع بها سقراط
بهذين الرجلين، بروتاجوراس وأتاجزاجوراس، تأثر يوريبيدز. . . ولم يكن تأثره بهما هيناً يسيراً، بل كان آثرهما فيه كبيرا بالغاً: فقد عرَّفه الأول ما في أسطورة الآلهة من سَفَه وتخريف، وعرفه الثاني أن ليست المادة في هذه الدنيا كل شيء. . . زيف له الأول أسطورة الآلهة فذهب إلى غاره الجميل الهادئ المشرف على البحر من ربوة في جزيرة سلاميس يفكر ويتأمل ويبتسم. . . يبتسم لأنه يتذكر حاله في شرخ شبابه إذ يكلفه أبوه سادن أبوللو بحمل الكأس الإلهية في الرقصة المقدسة، رئيساً لفريق حاملي الكؤوس من سادة شباب الأثينيين. . . ثم يبتسم أيضاً لأنه يتذكر حاله حينما كان يحمل الشعلة المقدسة في موكب أبوللو عند رأس زوستر، فيظل يتهادى كالظبي من ديلوس إلى أثينا، مشتركاً في زهو وخيلاء في حماقة البشر وخرافة الآلهة
وزيف له الثاني تلك المادة المجردة التي يعكف عليها الناس ويفني فيها الفلاسفة أحلامهم، ثم يُصوّر له القوة العليا المدبرة، والعقل المجرد الجبار، فيلتفت إلى ما ركب في صميم الإنسان من قوى خارقة تستطيع أن تصنع كل شيء وتستطيع أن تتغلب على كل شيء، فيذكر هذه الأيام العبوس القمطرير التي اضطر فيها شيوخ الأثينيين وعجائزهم وأطفالهم - وهو منهم - إلى الهجرة من أثينا إلى جزيرة سلاميس وغير سلاميس، لأن إجزرسيس