للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

عاهل فارس وطاغية البربر قد أقبل بخيله ورجله، وملأ البر والبحر بعساكره، وراح يهلك الحرث والنسل، متقدماً نحو أثينا. . . وهاهو ذا يحرق الدور والمعابد ويخرب كل شيء. . . وهاهي ذي ألسن النيران تلتهم الأكربوليس الشاهق، ويوريبيدز الطفل يشهد المنظر المروع الموحش فيمن كان يشهده من الأطفال والشيوخ والعجائز. . . ويبكي كما كان يبكي هؤلاء لما يصنع الطاغية بوطنهم الجميل الضعيف، ومعابدهم الخالية الخاوية. . . وآلهتهم. . . نعم آلهتهم. . . تلك الأوثان التي لم تغن عنهم ولا عن أنفسها شيئاً. . . ثم يتصايح الناس من كل فج، ويتسامعون فرحين مستبشرين، فيعلمون أن أسطولهم الضعيف البائس قد مزق أساطيل إجزرسيس، وأن أجنادهم الجائعة المنهوكة قد فتكت بأجناد جبار الفرس، وأن أثينا وحدها. . . أثينا الديمقراطية الحرة العالمة الأديبة المتحدة قد بطشت بالجبابرة العتاة الطغاة فخلصت هيلاس من شرورهم. . . ويقبل تيمستوكليس قائد اليونان المجرب المنتصر فيقول للناس: (تالله ما نحن صنعنا كل هذا!) فيحفظ الناس قالته ويحفظها يوريبيدز حين يكبر، ويتذكرها حين يلقى الفيلسوف أتاجزاجوراس ويتأثر بفلسفته فيعرف لماذا غلبت أثينا فارس، وكيف عصفت المعرفة بالجهل، والنظام بالتبربر، والعقل بالمادة. . .

لقد كان محور فلسفة بروتاجوراس كلمته الخالدة (الإنسان مقياس كل شيء)، كما كان محور فلسفة أتاجزاجوراس أن المادة ليست كل شيء في الوجود، بل أن فوق المادة قوة أرفع منها وأسمى لأنها مسلطة عليها تديرها وتوجهها. . . تلك القوة هي العقل في الإنسان والقوة المدبرة في الوجود. . . إذن فليع يوريبيدز كل هذا، وليطبقه على ماضيه المفعم بالعبر، وليهزأ هو أيضاً بالآلهة بعد أن كان يحمل الخمر المقدسة والشعلة المقدسة في مهرجان أبوللو. ولا يكتفي بالسخرية بالآلهة. بل يشتط فيحطم أوثانها ويغضب عُبَّادها، وليخسر الجوائز السنية التي يسيل من اجلها لعاب الأدباء، ولينل من هذه الجوائز أربعاً فقط في حياته العامرة التي جددت الأدب، وثبتت دعائم المسرح. . . وليضحك حين ينال سوفوكليس عشرين جائزة أولى وثلاثين من الثواني لأن سوفوكليس لا يجرح كبرياء الجماهير ويترفق بآلهتهم ولأنه لا يعني إلا بفنه، في حين يعني يوريبيدز بالغاية والمثل الأعلى.

<<  <  ج:
ص:  >  >>