لمقدم الخديو ليسمعه كلمة مصر، كلمة الشعب الذي ألبس جده العظيم بالأمس الكرك والقفطان دون رجوع إلى السلطان. وما أعظم هذه الكلمة ينطق بها فلاح من أعماق الوادي نبت ونما على ثراه!
ووصل الخديو إلى عابدين بعد أن فشلت سياسة طوافه على الآليات، تلك السياسة التي تدل في ذاتها على منتهى الضعف، والتي لا يشفع له في اتباعها سوى أنها كانت آخر سهم في جعبته إن كان هذا شفيع. والحق أن الخديو قد لاقى في ذلك الطواف ما تنخلع له أفئدة أقوى من فؤاده. وحسبك أن فرقة القلعة قد ثارت في وجهه حينما أمسك بتلابيب قائدها مهدداً حتى لقد وضع العساكر الأسنة في بنادقهم بأمر من هذا القائد وتجمهروا حول الخديو حتى صاح بالقائد (أفسح لنا الطريق يا بكباشي).
ودخل الخديو السراي من باب خلفي. ويقول مستر كلفن إنه قفز من عربته وأشار على الخديو أن يسير توا إلى الميدان ففعل توفيق ذلك، وسار إلى حيث اجتمع الجند، ووراءه ستون باشا وأربعة أو خمسة من الضباط الوطنيين، وواحد أو اثنان من الضباط الأوربيين؛ ويذكر عرابي أنه كان معه المستر كوكش قنصل انجلترة بالإسكندرية والجنرال جولد سمث مراقب الدائرة السنية
وتقدم الخديو ثابت الخطى، فأشار عليه كلفن أن يأمر عرابياً بتسليم سيفه إذا ما دنا منه وأن يأمره بالانصراف ثم يطوف بعد ذلك على الفرق فيأمرها بمثل هذا الأمر
وسار عرابي على ظهر جواده حتى إذا اقترب من الخديو صاح به الخديو:(ترجل وأغمد سيفك). ففعل عرابي دون إبطاء، ومشى نحو الخديو ومن خلفه نحو ثلاثين ضابطاً فأدى التحية العسكرية
الموقف رهيب بالغ الرهبة! ففي هذا الجانب إذا نظرنا إلى حقائق الأمور نرى مصر التي أيقضتها الإحن والفواجع تتمثل في هذا الجندي الفلاح تحرى على لسانه كلمتها في غير التواء أو تلعثم؛ وفي الجانب الآخر صاحب السلطان والجاه الموروث، تغضبه هذه اليقضة وتذهله، مع أنه رآها منذ بدايتها ورأى أباه على جلالة قدره يوسع لها صدره ويخفض لها جناحه فيزداد بذلك رفعة. . . هنا الحرية الوليدة، والديمقراطية الجديدة؛ وهناك التقاليد العتيدة، والأوتوقراطية العنيدة؛ ومن وراء ذلك كله الثعالب وبنات آوى تتمسكن لتتمكن،