يكون هؤلاء الأغنياء بخلاء لأنهم شرقيون، أو لأنهم عرب؟ وهذه عادات العرب، وهذا دينهم هو القانون الأوحد الذي يحل مشكلة الغني والفقير، والذي يرد عن العالم هذا الوحش الكاسر الذي جاء يحتويه بين فكيه اللذين هما الشيوعية والفردية، ويدعه أثراً من الآثار، فكيف تظهر مشكلة الغني والفقير في البلد الذي يدين أهله بهذا الدين؟
لا. ليست الشرقية علة هذه المشكلة، ولكن العلة كفر هؤلاء القوم بالشرقية ودينها وعاداتها كفراً لا يصلح معه تنبيه ولا بيان، وإنما يصلحه أن ينشأ أبناء هؤلاء الأغنياء الأشحة على الخير، الأسخياء على الشر، نشأة أخرى ينقلبون معها ناساً آخرين، ولا يكون ذلك إلا بالمدارس والأدب، ولقد كان عندي في إحدى مدارس دمشق فصل (صف) فيه أبناء أفقر الفقراء، وأنباء أغنى الأغنياء، وكانوا في الفصل منفصلين. . . كأنهم في معسكرين، وكان هؤلاء يأتون إلى المدرسة بالسيارات ويوصلهم إلى بابها الخدم يحملون كتبهم كيلا تتعب بها أيديهم الناعمة، ويدخلون الفصل مزهوين بثيابهم الجديدة، وأولئك ينظرون محسورين ملوعين. فما زالت (والله) بهم أبين لهم أن الفضل بالعلم والخلق والجد لا بالمال والثياب والمظاهر، وأضرب لهم الأمثلة بعمر وعلي وابن عبد العزيز ولنكولن والشيخ طاهر، وانزل بالأغنياء لأعلمهم فضيلة التواضع، وأرتفع بأولئك لألقنهم فضيلة العزة، حتى صار بنو الأغنياء يستحيون أن يأتوا بالسيارات ويتوارون حياء وخجلاً إذا جاءتهم عند منصرف التلاميذ لتحملهم إلى دورهم وقد كانوا لا يستحيون ولا يخجلون. وكانت النتيجة أن المعسكرين قد انقلبا إخواناً متصافين وظهر في كليهما تلاميذ نابغون ما كانوا لينبغوا أبداً لولا أن ألقوا من نفوسهم مذلة الفقر وكبرياء الغنى واستبدلوها بعزة الكرامة وعظمة التواضع!
فيا ليت أن المدرسين ينتبهون جميعاً إلى هذا الأمر فيسدون إلى الأمة يداً ويكسبون من الله أجراً، فإنه لا شيء أشد على نفس الفقير من أن يتحكم فيه أو يسمو عليه ابن الغني. وأنا (قد) أحمل ما أرى من صلف الغنى وأوهم نفسي انه قد كسب ماله بيده وجده فحق له أن يستمتع بثمرته، أما أن أرى الصلف من ابنه فلا. . . فيا أيها الأغنياء لا تحملوا أبناءكم على رقاب الناس، فأنكم لا تدرون كم عدواً تكسبون لهم، وماذا تفسدون من طبائعهم حين تأبون إلا أن تدللوهم هذا الدلال، وتترفعوا بهم إلى حيث تبلغ أيديكم وأموالكم، حين