تمكنونهم من أولئك الذين ساقهم الفقر إليكم، واضطرهم فكانوا لكم خولاً أو أجراء، فيشمخون عليهم بآنافهم الصغيرة ويذيقونهم ألوان الأذى، والطفل (في الطبع) لا يعرف الرحمة، ولا يدري ما العقل فكيف وهو ابن الغني قد ورث القسوة وتطبع عليها وقلد فيها أباه؟ وإنا لنرى نحن المدرسين من ذلك العجب. . . هذا تلميذ يأخذ كل يوم من أبيه ما يقيم أود أسرة من هذه الأسر الجائعة فلا ينفقه إلا في الشر، والمال يذهب من حيث أتى. . . رأيته يضن على رفيق له فقير بقرش يقرضه إياه قرضاً ليشتري به رغيفاً يتغدى به، ويشتري بسعة عشر قرشاً فرنّية (كاثو) يطعمها على مرأى منه لكلب له صغير مدلل يسوقه معه إلى باب المدرسة ثم يعود به الخادم في السيارة. وأبوه الغني يسمع بهذا فلا ينكره ولا يأباه. كأن الله قد خلق الناس بقلوب، وخلق هؤلاء بجيوب، فأبدلهم بالعواطف المال، فهم لا يحسون ولا يشعرون ولا يدركون أن الله ما نقص من مال الفقير إلا ليتخذ له في الآخرة إن صبر ذخراً، ولا زاد في مال الغني إلا لينظر أأعطى وشكر، أم بخل واستكبر، ثم لا يكون الغني إلا خازناً لهذا المال يحاسب به يوم القيامة فيشدد عليه الحساب. أفرأيت خازناً في مصرف أو شركة يطن أن المال ماله، فيخالف فيه أمر أصحابه، ويمنعه عمن هو حق لهم؟
المال أيها الأغنياء مال الله فإن زاد لم يمكن إنفاقه إلا على الخلق (عيال الله)، فأروني كيف تأكلون الذهب، وتلبسون (البنكنوت)، وتسكنون صناديق الحديد؟ أن هي إلا معدة تمتلئ بما يقذف فيها والجوع لها خير أدام، وجسد يستقر بما يلقى عليه والنظافة له أحسن حلية، وبيت يكِن من الحر والقر، ولذائذ محللة ميسورة، وما وراء هذا إلا أكل يفسد الهضم، أو وزناً يهد الجسم، وخمر تحر الأحشاء، وبلايا معها بلايا أخرى من عذاب الضمير والغفلة وضياع الإيمان، أو مآثر تنفع الناس، وترضى الله، ويجد صاحبها مكافأتها الاطمئنان والمجد في الدينا، والثواب من الله في الآخرة، وهذه حكمة واحدة من حكم الله في الغنى والفقر لو تدبرتموها لفتحت آذانكم فسمعتم كلمة الحق، وكشفت الغشاوة عن عيونكم فقرأتم في خلق الله وفي كتابه آيات الهدى، ولكن اللذاذات قد شغلتكم يا أيها الأغنياء الأغبياء!
على أنه ليس اشد على الفقراء من منع الغنى المترف صاحب الأطيان والمتاجر وبخله وصلفه وتبذيره. . . إلا الموظف الكبير الذي ينال وهو قاعد على كرسيه لا عمل له إلا