الحقيقة بين ديمقراطية أثينا وأتوقراطية إسبارطة. . . وقد كان يوريبيدز من أنصار السلام آخر الأمر وإن يكن قد ظل جندياً من سن الثامنة عشر حين اعتبر رسمياً (إفيبوس) أي شاباً لائقاً للجندية إلى أن بلغ الستين. . . وقد أثار عليه ميله للسلام حفائظ مواطنيه، تلك الحفائظ التي منها ما عرفنا من ثورته على التقاليد السلف وما كان يتناول به النساء في دراماته من تحليل ودفاعه السيكولوجي عن الزناة والقتلة وجنايات المأفوكين، وما سنعرفه عنه في هذا الفصل من سخريته بالآلهة وتجديفه في دين الإغريق ورمي أرباب الأولمب بأقسى التهم وأفتك سهام التجريح. . . لكن يوريبيدز مع ذلك كان يحب أثينا لأنه كان لا ينسى إذ هو طفل والأثينيون ينقلون إلى سلاميس العجائز من الرجال والنساء والأطفال - وهو منهم إذ ذاك - والفرس البرابرة يحرقون القرى والمعابد على الشاطئ فتندلع ألسن النيران لتكتب في صفحة التاريخ وقائع هذه الحرب بحروف من نار. . . لم يكن يوريبيدز ينسى هذا المنظر الفظيع، ولم يكن يربح ذهنه بعد إذ شب أثينا الضعيفة الديمقراطية قد انتصرت على فارس القوية المستبدة، وأن الأثينيين القليلين الجياع قد انتصروا ذلك النصر لأنهم كانوا غير معتدين على أحد ولا طامعين في ملك أحد. . . ولأنهم (أحرار أيها الملك، ولكنهم غير أحرار في عمل أي شيء، لأن لهم سيداً واحداً يخض له الجميع يدعونه القانون!) كما قال أحد الإسبرطيين لعاهل الفرس أجزرسيس وهو يسأله لماذا لا تفر هذه الحفنة القليلة من الناس أمام عسكره اللجب الكثير!
هكذا أحب يوريبيدز وطنه أثينا الذي أشاد به في كثير من دراماته. وهكذا أحب يوريبيدز الديمقراطية، لكنه سخط على الديمقراطية جميعاً حينما ثار وطنه عليه مع أنه من أعظم أسباب رفعته، وحينما رأى الديمقراطية ترفع الأوشاب وتُكوّن منهم زعماء الشعب فيتحكمون في السادة الأخيار من رجال الذهن والخلاصة الصالحة من نجباء الأمة ثم يظل هؤلاء الأوشاب محترفي سياسة، وموضع تقديس الرعاع والدهماء؛ والويل كل الويل لمن يجرؤ أن ينقذهم بكلمة ولو كانت كلمة الحق، أو أن يرسل فيهم لساناً ولو كان لسان الصدق. . .
من وطنياته في ميديا
حينما لقي جاسون زوجته ميديا بعد إذ كشفت سره دار بينهما حديث طويل فيه مرارة وفيه