ففي مدى القرن التاسع عشر كانت آمالنا تمتد وتتسع، حتى أصبحنا نعتقد أننا لسنا بعيدين عن عصر ذهني عظيم! فالعلوم تسير بخطى كبيرة نحو التقدم، تاركة للإنسان السيطرة على قوى الطبيعة المختلفة؛ والديمقراطية تنشر لواءها على سائر بلاد العالم المتمدن؛ والرأي العام يحترم في كل مكان؛ والمثل العليا تقود الإنسان نحو التقدم في سائر أنحاء الحياة.
ولقد جاءت الحرب العظمى بعد ذلك بقواها المدمرة، فشتتت العائلات، وأزالت عن المرأة قناع العفة والحياء، ولم يكن أحد ليفكر في هذه الحال إذ ذاك، لانصراف الأمم جميعها إلى أمر واحد وهو كسب الحرب.
فبعد أن وضعت الحرب أوزارها أنشئت عصبة الأمم، فطرب لها العالم وظن الناس أن العصر الذهبي المرموق قد ظهرت بشائره تحمل معها الأمن والاخلاص، حيث يحل حكم العقل والعدالة في كل مكان، وينصرف الخوف والجزع عن الأمم الضعيفة، فتصبح في مأمن من اعتداء جاراتها القوية.
ولكن تلك الأماني لم تلبث أن تقشعت، وحل محلها ذلك التفكك في عرى الروابط العائلية والوشائج الوطنية. وحلت الإباحية محل العفة وضبط النفس، وذهب الإخلاص والطهر من الرجل كما ذهبا عن المرأة، وحل محلهما الطمع وإشباع الشهوات واختفت الرغبة في الزواج فراراً من تحمل أعباء الزوجية.
إن هذا الانقياد للشرور وعدم الخضوع لقانون العقل والعرف يدلان على أن الهمجية تهددنا وتقترب منا يوماً عن يوم.
ولقد ظهرت هذه الميول الوحشية في شؤوننا السياسية. لقد كانت الأمة تخجل أن تهاجم أمة أخرى قبل أن تمهد لذلك بأعذار يقبلها العقل، وكان الرأي العام يحسب له حساب.
ولكن القاعدة المتبعة الآن تخالف ذلك كل المخالفة، فيكفي أن تكون الأمة راغبة في التوسع والرقي وتبوئ مكانها تحت الشمس كما يقولون، لتعتدي على استقلال جاراتها.
لقد جاء زمن كان الواجب يقضي فيه على الأمة المحاربة أن تعلن الأمة الأخرى بأن تستعد لمحاربتها، ولكن قد بطل كل ذلك في ضمير الأمم الآن. والرأي أن تأخذ عدوك على غرة وتسلط الهزيمة مباشرة عليه.