أما عن حكم الدستور فكان ذلك يقتضي حقاً أن يتنازل الخديو عن جانب كبير من السلطان المطلق إلى نواب البلاد وتلك هي المشكلة، وما كانت مشكلة في مصر وحدها، بل لقد كان لها مثيلات في جميع الحركات الدستورية التي شهدها العالم، فما قام الخلاف بين الملكية والشعب في فرنسا إبان ثورتها إلا من هذه الناحية. وما استمرت القلاقل قروناً بين الملكية والشعب في إنجلترا إلا بسبب ذلك. وما استقرت الأمور في الدولتين إلا حينما أثبت الشعبان قوتهما. وإذاً فكان لا بد أن يتفاقم الخلاف بين الشعب والخديو في مصر حتى يثبت الشعب قوته أو يتنازل الخديو عن مبدأ الحكم المطلق، ومن هذا الخلاف كانت تتاح الفرص للأجانب ليسيطروا على الخديو
وأما عن تركيا فقد كان توفيق يستريب ويخاف من سياستها. فكر السلطان أولاً أن يرسل جيش احتلال إلى مصر ليعيد فيها نفوذ الخلافة سيرته الأولى قبل عهد محمد علي؛ ولكن إنجلترا وفرنسا مازالتا به حتى استطاعتا بالسياسة حيناً وبالتهديد من بعد حيناً آخر حتى أقلع عن هذه الفكرة. ولقد أفادتا من ذلك فائدتين: بقاء مركز مصر على ما هو عليه بحيث يسمح لها بالتدخل في شؤونها؛ والتأثير على الخديو بهذا انهما هما الملاذ والسند
ولقد كان الأمير عبد الحليم بن محمد علي في الآستانة يدس الدسائس ويسعى سعياً متواصلاً لخلع توفيق وتولي حكم مصر بدلاً منه، وكانت سيرة ذلك النشاط تزعج توفيقاً وتقلق مضجعه.
وأخيراً أوفد السلطان وفداً إلى مصر برياسة علي نظامي باشا، وقد فعل السلطان ذلك دون علم الدول الاوربية، ولم تعلم بذلك حتى الحكومة المصرية نفسها إلا عندما وصل الوفد
وكان عرابي قد كتب إلى السلطان قبل يوم عابدين كما أشرنا. ولعل السلطان أوجس خيفة من الحركة القائمة في مصر، وظن أنها تنطوي على عناصر استقلالية ترمي إلى خلع سيادة الأتراك. وقد كان عبد الحميد يومئذ يقاوم الحركات الحرة في بلاده ويبطش بالداعين إليها. ولكن الوفد كتب تقريراً عن الحال في مصر جاء فيه على لسان الخديو أن البلاد هادئة ليس فيها ما يخيف. وجاء على لسان رئيس الوفد أن رجال العسكرية والزعماء جميعاً يؤكدون ولاءهم للسلطان، وإنه لذلك يثني عليهم ولا يخالجه شك في حركتهم. ولقد قامت الدولتان بمظاهرة بحرية في مياه الاسكندرية؛ فلما سألتهما الحكومة المصرية عن