لهما أنفسهما، ذلك أنهما ينسبان هذا التلون في الثريدة إلى قلة الدسم، فكيف يتصوران هذا؟ لاشك أنهما فرضا هذا الدسم صبغاً كصبغ الحيطان أو صبغ البيض في شم النسيم! حين ذاك حقيقة تكون قلة الدسم كافية لأن يظهر بعض الثريدة بلون الخبز الأصلي وهو البياض، وبعضها وهو الذي ناله الصبغ يكون من نصيبه تلك الصهبة، كذلك تعليلهما هذا التلون بقلة المرق أو رداءته. وما ندري كيف جاز هذا في رأيهما ولم يقل به طاه ولا طاهية؟
إنما الذي يصح أن يفهم من اختلاف لون الثريدة أن الرجل كان يقدمها إلى ضيفانه وقد كسي بعضها باللحم وترك جانب منها لا لحم عليه، فظهر هذا أبيض ناصعاً بلون الخبز، وذلك أصهب بلون اللحم. ويكون ذلك عيباً كبيراً ومسبة شنيعة في كرم الرجل لأنه لم يجر على عادة الناس من تغطية جميع الثريدة باللحم. فإذا كان قد زاد على ذلك أنه جعل ما يليه من الثريدة هو المغطى باللحم يكون قد ارتكب إلى جانب البخل رذيلة أخرى هي رذيلة الأثرة على من يجب نحوهم الإيثار
ويؤنسك بهذا المعنى قول الجاحظ تلو هذا الكلام:(وكنت قد هممت قبل ذلك أن أعاتبه على الشيء يستأثر به ويختص به. . . فلما رأيت البلقة هان على التحجيل والغرّة)
يريد أنه كان يرى من هذا الرجل استئثاراً بالشيء دون جلسائه، ولكن ذلك يكون خفي الوضع ليس في شناعة تمييزه لنفسه على الخوان بجعل الثريدة التي يأكل منها على حال غير التي يجعلها أمام الناس من مضار مائدته، فلما رأى منه ذلك لم يروجها لنصحه لأنه لا يقدم على هذا إلا مصرّ غير مبال بذم الناس ونقدهم
ص ١٠٩ يقول الجاحظ للحزامي وقد اتهمه بالإسراف وتضييع الحزم حين رآه يلبس من ملابس الشتاء قبل أبانه:(وأي شيء أنكرتَ منا منذ اليوم). فيعلق الشارحان على قوله (أنكرت) بقولهما: أي جحدت واستقبحت من أمرنا.
وقد جمعا في التفسير بين معنيين متضاربين فإن الجحود ادعاء جهل الشيء مع علمه وهو لا يلتقي مع الاستقباح، إذ هو إعلان الرأي بقبح الشيء
والواقع أن الإنكار يفسر بالمعنيين، ولكن ليس يلزم من هذا أن يفسر بهما معاً في مقام واحد. فالمراد هنا هو المعنى الثاني فقط وهو الاستقباح، فأما الجحود فلا محل له كما هو