للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الزمن ولم يكن الأثينيون قد استعدوا لتذوق ما فيها من جمال كما حدث لمآسي يوريبيدز.

نشأت الكوميديا اليونانية كما نشأت المأساة من الاحتفالات الشعبية الكثيرة والأعياد الدينية المتعلقة بالإله باخوس (دينزوس) إله الخمر والنماء والحصاد. تلك الأعياد التي كان اليونانيون يمارسون فيها ألواناً عجيبة من (المساخر) تشمل الرقص والغناء والإنشاد والموسيقى والتضحيك وإرسال النكات واتخاذ الملابس التنكرية التي تمثل الطير والحيوان، ووحوش البر والبحر وتمسخ الخلق، وتبعث على العربدة والتضحيك. وكانت ألوان عجيبة من المجون والفحش لا يسيغهما ذوقنا الحديث تمارس في حفلات هذه الأعياد، وكان المشعبذ الناجح هو عادة ذلك الذي يجيد النكتة البارعة التي لا يحتشم في إرسالها عارية مكشوفة، فلا يبالي أن تتناول العورات المستورة، ولا يبالي أن يصيب بها من يصيب لأن كل همه أن يثير عاصفة من الضحك ويطلق الأكف بالتصفيق حماسة واهتزازاً. وقد احتضنت الديمقراطية التي نماها بركليس الكوميديا اليونانية فلم يكن الكوميديون يهابون اقتحام ميادين السياسة والأدب والتعليم والاجتماع، وكانوا يبالغون في ذلك مبالغة تشمئز منها الأخلاق والتقاليد الحديثة، فإذا انتقد أحدهم واحداً من رجال السياسة فليس في القانون الاثيني ما كان يؤخذ به بسبب ذلك إلا إذا أهان الشرف الوطني أو فضح كرامة الدولة في نظر الغرباء. فقد روي أن أرستوفان نفسه حوكم من أجل ذلك، وحكم عليه بغرامة فادحة في عهد كليون - وقد كانت هذه الديمقراطية المطلقة سبباً في سقوط أثينا، ولذلك شن عليها أرستوفان حرباً عواناً في كثير من كوميدياته. ولما كانت الكوميديات تستبيح جميع صنوف العربدة وتناول العورات وقذف الأعراض وتجريح الكرامات بأقذع ما يتصور الإنسان من أساليب الفحش، وعبارات المنكر فقد منع النساء والأطفال من شهودها لما كانت تفيض به من ضروب الفسق ويرد فيها من الشناعات.

والكوميديا اليونانية من أجل هذا تستند إلى هذه الدعامة الوضيعة من الطعن على رجال الدولة والتشهير بهم على نحو ما تفيض به مجلاتنا الأخبارية اليوم من مثالب وما تتناول به شخصياتنا البارزة من تعريض وكاريكاتور.

وهي تستند كذلك إلى الأساطير المحلية والخرافات التي لا يلجأ الكوميدي إليها إلا إذا ضاقت به ميادين السياسة والاجتماع.

<<  <  ج:
ص:  >  >>