وفوق هذا فإن تلك الفروض التخمينية مخالفة لروح البحث العلمي؛ لأنه إذا كان الكربون والآزوت والهيدروجين والأكسوجين وبعض المعادن الأخرى التي تتركب منها المواد الحية قد امتزجت طبيعياً وكونت تلك المواد في العوالم الأخرى فلماذا - وهي موجودة جميعها على الأرض - لا تمتزج هنا أيضاً وتولد المادة الحية كما فعلت في غير الأرض؟ أليس أساس كل علم أن نفس الأسباب تنتج نفس النتائج؟
لهذا كله وجب علينا أن نواجه الحقائق العلمية في حد ذاتها على ضوء الأبحاث والاكتشافات الحديثة وغير متأثرين بالآراء والمذاهب القديمة الموروثة، وأن نرجع إلى الحالة التي كانت عليها الأرض وقت ظهور الحياة لنستخلص من ذلك مصدرها - أي مصدر الحياة - وكيفية نشوئها وأسباب ذلك. وهذا ما أخذه العلماء على عاتقهم في الخمسين سنة الأخيرة.
قلنا إنه ما دامت الحياة ظاهرة طبيعية فلا بد أن تكون ظهرت على الأرض بفعل العوامل الطبيعية وهذا هو الواقع.
الواقع أن مواد الأجسام الحية النباتية والحيوانية تشتق رأسا الآن من الجمادات، وتتكون منها مباشرة في كل لحظة أمامنا، وعلى مرأى منا. فمن أين جاءت المواد الحية التي تبنى بها أجسامنا منذ تكوينها من بويضة صغيرة جداً لا ترى إلا بالميكرسكوب؟ لا شك في أنها تكونت من الغذاء. وقد بينا في المقالات السابقة أن المواد الغذائية تشتق من الجمادات وتتكون منها، فالحيوانات آكلة اللحوم تتغذى بالحيوانات النباتية وهذه تتغذى من النباتات، والنباتات تركب أنسجتها وتحصل على غذائها من الجمادات، فمادتها الخضراء (الكلوروفيل) تستعين بطاقة الشمس الإشعاعية وتحلل غار حمض الكربونيك المنتشر في الجو، وتنتزع منه الكربون وتمزجه بالماء فتؤلف منه السكر والنشا ثم الأحماض والقلويات العضوية والمواد الدهنية. وفي الوقت نفسه تمتص جذورها التراكيب الآزوتية من الأرض ذائبة في الماء وتمزجها بالمواد الكربونية المذكورة بفعل قوة الشمس أيضاً فتنتج المواد الزلالية الموصوفة بالحية. وهكذا تتركب الآن باستمرار جسام الكائنات الحية من الجمادات المنتشرة في الجو وعلى الأرض بفعل قوة الشمس وبواسطة الكلوروفيل.
وقد توصل الكيمائيون إلى تركيب الكثير من المواد العضوية النباتية والحيوانية من الجماد