إن الحركة العقلية العنيفة التي كانت في بلاد الإغريق لم تنقذهم من الوثنية المنحطة. فالعقل وحده لا يؤمن بما يصل إليه ويصنعه هو إلى درجة الطمأنينة التي لا بد منها في منطقة الإيمان، والطبيعة الآرية صارت تبحث عن الله بالعقل المادي وحده فما اهتدت إليه إلا أفراداً قلائل. ومن قرأ صور الإله في أفكار كثير من فلاسفة اليونان من العدد إلى الماء إلى العقول السبعة إلى النار إلى آخر الفروض يرى أن العقل وحده حتى في بلاد اليونان لم يقدم الصورة الكاملة للإله كما قدمتها الروح السامية فقد بحثت عن الله في نفسها ووقفت تبكي له بقلوب أنبيائها وصهرتها الآلام وأضناها الإخلاص له إخلاص الطفل حين يبحث عن أمه ويبكي، فظهر لها فأيقنت بالحق والخير
وقد نجحت الروح السامية في إنقاذ البشرية من الوثنية وفي إعلاء شأن الإنسان وفي تعميم صورة الكمال الإلهي وفي سيادة الأرض. فلا يمكن بعد ذلك كله أن نقول إن تلك السيادة السامية المبنية على النبوة كانت عفواً وصدفة، ولا يمكن أن تكون حركة العقليين موازية لتلك الحركة الروحية، وخصوصاً أيام كانت حركة العقل ضئيلة لا تستطيع أن تقيم قوانين وأخلاقاً. فلا بد أن يكون وراء الروح السامية سند من عالم الغيب
لا يمكن أن يستأنف الإنسان عبادة الأحجار والأشجار وغيرها بعد أن وصل إلى التسلط على كثير من قوى الطبيعة وبعد أن زال خوفه من قواها أيام كان يجهل أسرار تركيبها
ولذلك ختم لله الرسالة بمحمد وأعطى الإنسان الطبيعة يسخرها ويتصرف فيها بالتدريج كما يعطي الأب أبنه ماله بعد الرشد يتصرف فيه بعلمه وسلطته
تماماً هو قانون الأبوة مع البنوة فهو اطراد في سنن الكون. والطبيعة كلها متشابهة. النشأة العقلية العامة في الإنسان كالنشأة الجسمانية فيه
لقد استخلص الله خلاصة الحق من تجارب الحياة الإنسانية في جميع الأمم وأسلمها للإنسان ووصاه وصيته الأخيرة وقال له: بلغت الرشد فأمامك الطبيعة، وإلى اللقاء في الدار الثانية التي يحكم بها عقلك وعلمك، فاستعد لتقدم إلى الحساب عما تفعله في النفس والمادة وقواها
أليس هذا هو قانون الطبيعة مع أفراد الحيوان والإنسان ومع أسرهما؟ بلى، وإنه هو نفسه بشكل أوسع بين الله والمجموع الإنساني.
قد يقول قائل: إن الوثنية لا تزال دين عدد هائل جداً من الناس؛ ولا يزال سكان أفريقية