من اللائى حُمِلن على المطايا ... كريح المسك تستلّ الزكاما
فقال الأخطل: ويحك! ومن يقول هذا؟ قال الشعبي: يقوله شيخك أعشى قيس. فصاح الأخطل كمن أصابه مس: قدوس قدوس!!
ولم يسع عبد الملك إلا أن يحكم للاعشى على الأخطل: إذ هناك بون بعيد بين خمر يشمها المزكوم، وخمر تستلّ منه الزكام! وهنا يشعر الأخطل بالخطر المحدق به ويرى أن ريحه قد لاقت إعصاراً! وأنه رمى من هذا العراقي الدخيل بالداهية النكراء! لقد استطاع أن يسدد إليه سهاماً قاتلة في جلسة واحدة! فما الظن به إذا تطاولت المدة وتراخت الأيام؟! إنه لا محالة سيغلبه على مكانته من الخليفة، وسيسحب عليه ذيل الخمول! فتنبهت في نفسه غريزة المقاومة التي أرهقها طول النضال بينه وبين جرير وغيره في ميدان المهاترة! فورم أنفه وانتفخت أوداجه، وانتفشث لحيته، ودارت عيناه في رأسه كأنهما جذوتان ساعرتان! وفغر فاه يدير فيه لساناً كأنه لسان ثور! واتجه إلى الشعبي هاتفاً بصوت فيه مشابه من هدير البعير المغتلم: اسمع يا شعبي، إن لك فنوناً في الحديث وشجوناً في المحاضرة، وإن لنا طريقاً واحداً لا نحسن غيره، ولست أخالك غير ثانٍ من عنانك حتى تحملني على أكتاف قومك فأدعهم حرضاً!!
فعلت هذه الكلمات الناريّة أفاعيلها في الشعبي! فمثله لا ينكر صولة هذا التغلبي الذي لم يتورّع عن هجاء الأنصار! ويعرف أن أبياتاً من هجائه الممضّ الخبيث قد ترمى بقومه من حالق وتجلّلهم عار الأبد! فيكون أشأم همداني على همدان!
ولم يكد يتمثّل الشعبي سوء هذه المغّبة حتى ذابت حماسته فقبع في مكانه كالقنفذ الخشب! وساورته الرعدة من قمة رأسه إلى أخمص قدميّه! فالتفت إلى الأخطل ضارعاً يقول: أقلني هذه المرة يا أبا مالك! ولك عليّ عهد الله وميثاقه ألا أعود لمثلها أبداً!
وأحس الأخطل نشوة الظفر! فقال (ماطَاً صوتَه): ومن يضمن لي ذلك أيها الشيخ؟ فرفع الشعبي إلى عبد الملك عينين منكسرتين متوسلتين قائلاً: أمير المؤمنين
فضحك عبد الملك حتى بدت له سِنّ سوداء كان يسترها! وقال: أنا ضامن يا أخطل ألا يعرض لك بشيء بعد هذا!