وأراد عبد الملك أن يصل ما أنقطع من الحديث فقال: يا شعبي أي شعراء الجاهلية أشعر من النساء؟ فقال الشعبي: الخنساء. قال: ولم فضلتها على غيرها؟ قال: لقولها في أخيها صخر:
وقائلةٍ (والنعشُ قد فات خطوَها ... لتدركه): يا لهف نفسي على صخرِ
ألا ثكلت أمُّ الذين غدوْا به ... إلى القبر! ماذا يحملون إلى القبر؟!
فقال عبد الملك: أشعر منها - والله - ليلى الأخيلية حيث تقول في توبة:
مهفهف الكَشْح والسربال مُنْخرق ... عنه القميصُ لسير الليل مُحتقِر
لا يأمن الناس مُمْساه ومُصْبحه ... في كل حيّ (وإن لم يَغْزُ) يُنتظر
كان لكلام عبد الملك أثر عميق في نفس الشعبي، فانخزل انخزالاً شديداً وكسف باله! لقد انتصر على شاعر الخليفة ولكن الخليفة لم يعتّم أن أخذ له بالثأر المنيم! وقرأ عبد الملك في وجه الشعبي ما يعتلج في صدره من ألم برح! فقال: يا شعبي لعله قد شق عليك ما سمعت! فقال: إي والله أشدّ المشقة! إنني لم أفدك إلا أبيات النابغة (هذا غلام حسن وجهه. . .) وقد أفدتني أفضل منها
فقال عبد الملك: يا شعبي، إنما أعلمناك هذا، لأنه بلغني أن أهل العراق يتطاولون على أهل الشام ويقولون: إن كانوا غلبونا على الدولة فلن يغلبونا على العلم والرواية، وأهل الشام أعلم بعلم أهل العراق منهم!
ثم جعل عبد الملك يردد على الشعبي أبيات ليلى حتى حفظها، فألقى المخصرة من يده - وهي إمارة الإذن بالانصراف - فنهض الشعبي مودعاً
وخطر لعبد الملك أن ينتفع (بدبلوماسية) الشعبي، فأوفده إلى ملك الروم. قال الشعبي: فلما دخلت عليه جعل لا يسألني عن شيء إلا أجبته، وكانت الرسل لا تطيل الإقامة فأمسكني عنده أياماً. فحين أردت الانصراف قال لي: أمن بيت المملكة أنت؟ قلت: لا، ولكنني رجل من العرب. . . فدفع إلي رقعة خاصة وقال: إذا أديت الرسائل إلى صاحبك فسلمها إليه. فلما رجعت إلى عبد الملك، دفعت إليه الرسائل ونسيت الرقعة، ثم تذكرت بعد خروجي من الباب فكررت راجعاً ودفعتها إليه. فقال لي: هل قال لك شيئاً قبل أن يدفعها إليك؟ قلت: نعم، سألني: أمن بيت المملكة أنت؟ فقلت: لا، ولكنني من العرب. ثم خرجت فما وصلت